[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

واشنطن وسعادة اليمن

لست متأكداً من الإجابة عن هذا السؤال، لكنني لست بحاجة أيضا إلى تذكير أنفسنا بقيمة هذا البلد وتاريخه الممتد إلى أبعد العصور وحضاراته العريقة ونقاطه الاستراتيجية التي تجعله مطمعا للقوى الغربية، مثلما كانت الحال في العهد الاستعماري..

ولا أعتقد أننا بعيدون جدا عن هذا العهد الذي عاد إلى المنطقة في شكل مختلف وبطرق وأساليب جديدة، إذ يكفي أن نتابع ما يجري في العراق وأفغانستان والسودان ولبنان لنعرف ما يمكن أن يحدث لليمن ومصر وليبيا والجزائر وسوريا والسعودية ودول الخليج

. فأينما وُجدت القاعدة وجدت معها الآلة العسكرية والأمنية والاستخبارية للولايات المتحدة، من العراق إلى أفغانستان إلى اليمن.. والعكس صحيح أيضا أينما وجدت القوات الأميركية نجد أن القاعدة ليست بعيدة عنها، هذه العلاقة الغريبة تسير دائما إلى توسيع مجال عمل القاعدة في العالمين العربي والإسلامي، كما تزيد من التدخل العسكري لواشنطن في هذه المناطق.

بالنسبة للإدارة الأميركية، التواجد في أي دولة بدأ ينتقل إليها «فيروس القاعدة» خيارٌ استراتيجي، وهو الحل البارع -وليس الحل المفيد- لأي دولة وجدت نفسها في حالة اضطرار لتقبل السلوك الأميركي، فواشنطن تترك التدخل العسكري عموماً كآخر الخيارات الأمنية، لكن مجمل العمليات التي تسبق هذا الخيار، سواء كانت في شكل مساعدات مادية أو تكنولوجية أو حتى عسكرية، تكون في الغالب غير فعالة وبلا فائدة، إما لأن واشنطن لا تساعد هذه الدول بصورة تجعلها تقلب ميزان القوى ضد القاعدة، وهذه نفس السياسة التي كان يتبعها الاتحاد السوفيتي حيال العرب في صراعهم مع إسرائيل، وإما أن طبيعة هذه الدول لا تناسب التصادم مع القاعدة، وبالتالي يصبح خيار التدخل الأميركي مطلوبا محليا ومفروضا أميركيا ودوليا.

يتم الترويج إلى أن تنامي دور القاعدة في اليمن يشكل خطرا أمنيا كبيرا على بعض دول المنطقة خاصة السعودية، ما يعني حث هذه الدول على تقديم المساعدة اللازمة للتدخل الأميركي، ولمَ لا المشاركة في عملية التدخل نفسها. استراتيجية واشنطن ل «إرهاب» المنطقة بخطر القاعدة ليست جديدة ولكنها تتجدد في كل مرة، حسب المتغيرات الدولية والظروف الطارئة لكل بلد، أسلوب «الترويج» لخطر القاعدة هو الخطة الجاهزة لواشنطن، وأحد ركائز هذه الخطة هو التدخل المباشر.

ما يحدث في اليمن في الوقت الراهن لا يختلف كثيرا عما حدث ويحدث في العراق وأفغانستان.. وقد يحدث مع إيران أيضا بعد إدراج تنظيم «جندالله» ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية التي تعدها الخارجية الأميركية من حين لآخر. الغريب في الأمر أن حكومة طهران، التي لا أذكر أنها سعدت بقرار أميركي في السنوات الأخيرة، رحبت بهذا باعتبار واشنطن «جندالله» منظمة إرهابية!! رغم أن هذا الاعتراف قد يكون يوما ما السبب في اجتياح القوات الأميركية لأراضي الجمهورية الإسلامية، مع عدم المبالغة في هذا الجانب، بحكم أن طبيعة التعامل مع إيران قد لا تكون بنفس درجة التعامل مع العراق أو أفغانستان.
بالنسبة لليمن كل شيء جاهز.. منذ محاولة القاعدة نسف طائرة ركاب أميركية يوم عيد الميلاد، إلى أزمة الطرود المفخخة التي ظهرت مؤخرا لتعيد وجود هذا التنظيم في اليمن إلى الواجهة، وهذا يعني أمرين مهمين:
الأول أن حكومة صنعاء فشلت في التصدي للقاعدة، وأن الجهود التي بذلها اليمن في محاربة التنظيم لم تحقق المطلوب لا إقليميا ولا دوليا، والأمر الثاني أن هذا الفشل سبب مباشر لتبدأ الولايات المتحدة وبريطانيا بالتنسيق مع السعودية ودول عربية أخرى في مرحلة إعادة نظر شاملة لتطوير استراتيجية مساعدة اليمن في هذه المهمّة مع احتمال زيادة التدخل الخارجي في العمليات العسكرية والذهاب أبعد من مجرد الدعم الاستخباري واللوجستي.

فللمرة الأولى يلمّح عدد من المسؤولين العسكريين وفي إدارة الرئيس باراك أوباما إلى أنه من الضروري أن توضع بعض فرق القوات الخاصة الأميركية المكلفة بالقضاء على المتمردين في اليمن تحت السيطرة العملانية لوكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي أيه»، وهذا يعني أن التدخل العسكري المباشر أصبح أكثر من ضروري، فإذا ما تولت «سي آي أيه» قيادة فرق القوات الخاصة المكلفة بتصفية المقاتلين المتمردين خصوصا مقاتلي تنظيم القاعدة في اليمن، فسيكون بإمكان الولايات المتحدة التركيز على أهداف إرهابية بشكل أسرع وأكثر سرية، وفي هذه الحالة سيكون لدى الولايات المتحدة هامش أكبر للمناورة لضرب عناصر القاعدة من دون الحصول على ضوء أخضر من الحكومة اليمنية..

وسواء كان الضوء اليمني أخضر أو أحمر أو برتقالياً، فالإدارة الأميركية تريد صنعاء منطفئة من دون أضواء، وأن تكتفي الحكومة اليمنية بمجرد المشاهدة والتصفيق على ما تقوم به قواتها العسكرية والاستخبارية من ضربات موجعة للقاعدة ولكل ما له علاقة بالحضارة في هذا البلد الذي يتنفس الحضارات..

حتى وإن رفضت صنعاء هذا التدخل سرا وعلنا -كما تقول- متحججة بالطبيعة القبلية المعقدة لليمن والانسلال الغريب للقاعدة في النسيج القبلي اليمني، ما يستوجب تعاملا خاصا مع هذا التنظيم، فإن قبول الحكومة اليمنية بمساعدات واشنطن (غير الفاعلة) في المراحل الأولى، يفترض الاستمرار في العملية وتنفيذ الأجندة الأميركية كما هي دون «رتوش»، واستباقا لأي تدخل أميركي موسع، تسعى صنعاء حاليا إلى إنجاز نوعي قد يلغي -في نظرها- التدخل الأميركي، هو اعتقال رجل الدين الأميركي اليمني أنور العولقي، لكن هذا الأمر -في تقديري- ربما يؤجل التدخل العسكري لكنه لن يلغيه.

أما حرب الطرود المفخخة التي اندلعت في اليمن ومرت بدبي وانتقلت عدواها إلى اليونان وكادت تصيب قادة فرنسا وألمانيا، فهي قصة قصيرة على شاكلة الجمرة الخبيثة وأنفلونزا الخنازير ستنتهي بمجرد انتفاء سبب وجودها، لكن الأكيد أنها ستكون سببا آخر لتعاسة اليمن الذي لم ينس طعم السعادة.

زر الذهاب إلى الأعلى