[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

ماذا بعد انتكاسة التجربة؟

كفى عبثا بمقدرات ومصير هذا الوطن.. ويكفى افتئاتا على هذا الشعب المغيب.. وكفى تدليسا واستخفافا بالعقول، وامتهانا للكرامة ومصادرة لإرادة الجماهير في اليمن .. نقول كفى.. ويكفي..!! استحيوا على أنفسكم يا هؤلاء...بعد أن أصبحتم مكشوفين للقاصي والداني، القريب والبعيد..

ثم باسم من وعن أي شعب تتحدثون..؟ هل هو هذا الشعب المسلوب الإرادة، المكلوم بديمقراطية ما تزالون ترددون أنها "تجربة" وكل تجاربكم للأسف أثقلت كاهله، وأتعست حياته.. لم يجن منها سوى أزمة بعد أزمة، ومأساة تتلوها أخرى ومعاناة تتبعها اشد وأقسى.. و إلى متى يظل الحبل على الجرار ؟ ومن يدفع ثمن انتكاسة التجارب ؟.

صحيح خولكم الشعب للحديث باسمه وتمثيله لفترة محددة، وأغلظتم الأيمان عليها، والالتزام بها، وعاهدتم الله والشعب على الوفاء بالمهام المسندة إليكم خلالها.. لكنه لم يسلم لكم مصيره وكل مستقبله ومستقبل أجياله لأجل غير مسمى، فكيف تعطون لأنفسكم حقا هو له، لم يتنازل عنه لكم، وتسلبونه استحقاقه ومكاسبه؟

ثم كيف تتحدثون باسمه خارج هذا الحق ؟ وتصورون أنفسكم بأنكم احرص عليه من نفسه، وأنكم تعلمون مصلحته خيرا منه ؟ هذه هي الوصاية على القاصر والسفيه بعينها، وهذا هو الافتئات بذاته ؟ فمن أعطاكم الحق في تقرير مصير هذا الشعب، ومن منحكم الوصاية على مقدرات الوطن وثرواته التي هي ملك هذا الشعب!! عجيب أمركم! وأي عجب، والأعجب أنكم تتحدثون عن ديمقراطية في وطن، وإرادة لشعب، فعلى من تضحكون ؟ وبمن تستخفون ؟ وكلما رفع الشعب رأسه افتخارا بنجاح وتقدم أحرزه في تجربة ما، إذا به يفاجأ بانتكاسة ترده على وجهه أيمسكه على هون أم يدسه في التراب من سوء ما لحقه من فشل.

اليوم خمسون عاما مضت منذ انطلاق ثورة الشعب وانتفاضته على الوصاية ورفضه للدجل والزيف.. ساعيا بعنفوان الثورة وأهدافها لتغيير حياته والنزوع إلى مستقبل أفضل وحياة حرة كريمة، " هذا المستقبل الذي لم يأت بعد، وتأخر كثيرا كل هذا الزمن الطويل والثقيل (وكيف يكون مستقبلا وهو يحتضن الماضي بكل سلبياته، ومصمم على أن يعيش في حضنه المتعفن)...

نعم الشعب اليمني ضحى وقدم انهارا من الدماء الزكية من اجل أن ينال كرامته ويسترد إرادته المسلوبة من الطغاة والمستبدين أعداء الحياة والإنسان، ورغم كل ذلك ما يزال - بعد مرور كل هذه العقود العجاف، إلا من تغييرات فرضتها معطيات الزمن - ما يزال يعيش بأمل ويضحي ويصبر ويتصابر على كل الترهات السخيفة، والوعود الكاذبة فضلا عن صعوبة الخلاص والفكاك من أسر ثالوث التخلف المقيت الجاثم على صدره "الفقر والجهل والمرض".. لا في عهود الظلام والاستبداد والكهنوت.. ولا في ظل الثورة والديمقراطية والحرية وغيرها من الشعارات الجوفاء الملهية.. بل أضيفت إليها الأمراض والعقد النفسية وحالات من الإحباط واليأس..

فلا تربية نجحت، ولا دراسة نفعت، ولا من زراعة اكتفت، ولا ثقافة غيرت أو أثمرت، ولا فائدة من زيد أو عمرو نتجت، ولا بطون شبعت، رغم آبار نفط ظهرت، ومواد أخرى صدرت، ومعونات وقروض قدمت.. فلا تعلم أين ذهبت، ولا ما قدمت وأخرت، و الحقيقة أنها في كل شيء فشلت، حتى في لعب الكرة تبهذلت، وكل الذي به تفتقت، ملهاة شعارات أبرزت.

نعم شعارات جوفاء قد صدأت، يهذر بها إعلام هلامي مضلل.. يفتقد لمشروعية العمل في إطار الهوية الثقافية الوطنية، حين يقلب الحقائق، ويشوه القيم والمفاهيم، يتحدث عن وطن ووطنية لا وجود لهما على ارض الواقع الذي تعيشه الجماهير صاحبة المصلحة الحقيقية في إعلام يتسم بهوية وطنية صادقة، يعكس واقعها ويعبر عن مراميها وتطلعاتها، وينتصر لقضاياها، ويحصن ثقافة أجيالها.

الملفت أن عللا عديدة كالصمم والعمى، والضلال والإضلال، والفساد والإفساد، قد تمكنت من هؤلاء وهؤلاء وأصبحت من طبائعهم.. فقد بدأوا بالتمثيل بها تارة بالمغالطة للنفس والآخر، وتارة بالتجاهل والتغاضي والتجاوز، وإنكار حقائق الواقع وتشويهها وتزييفها، بل لدرجة امتهان الكذب " واكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس " مقولة لم تعد نافعة، " وصدق فيهم (أشعبهم).. فقد كذبوا ثم كذبوا ثم كذبوا فصدَقوا أنفسهم.. في حين فقدوا ثقة الآخرين من حولهم.. بل حتى لم يتركوا لأنفسهم خطا للرجوع، فاستمرؤوا كل تلك الطباع المهينة والسلوكيات الخاطئة المشينة، واستمروا في غيهم وضلالتهم، وهم فوق كل ذلك يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا..

وحين نقول انتكاسة التجربة... هم أسموها تجربة وتجارب، والتجارب عادة إما أن تنجح وإما أن تفشل وليس هناك موقعا وسطا بين النجاح والفشل، وبالتالي في ما نسميه التجربة الديمقراطية في اليمن - من وجهة نظر شخصية - هي أصلا لم تجرب إلا اسما أما على ارض الواقع فهي شعار أجوف ليس إلا " بدليل أن شعارا رفع يقول " لا حرية بلا ديمقراطية ولا ديمقراطية بدون تطبيق سيادة القانون "وبعد كل هذه العقود نجد أن الحرية منقوصة والديمقراطية مازالت في طور التجربة.. أما عن تطبيق سيادة القانون فحدث ولا حرج.. ولسنا نفتئت على احد أو طرف.. ولكم أن تسألوا أي مواطن أمير أو غفير غني أو فقير في أي مكان.. وستجدون الجواب الشافي.. والشكوى من الجميع عن غياب القانون وسيادة وفخامة القانون.. إلا أن عمى الألوان والتنطع بالقوانين والكذب على الذقون للأسف هو السائد " وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".

ودليل آخر أن التعددية السياسية والحزبية احد أهم ملامح الديمقراطية هي أيضا تعرضت للمسخ والاستلاب والتشويه وأصبحت الأحزاب كلها تبحث عن موقع أو مكان في السلطة بعد أن تشكلت بصورة سيئة وفجة من خلال تكتلات بعيدة عن الفعل السياسي المجرد والثوابت الوطنية التي تحكم المسيرة نحو التسابق لخدمة الوطن والجماهير فانحرفت عن ذلك لان أهدافها وتكويناتها بعيدة عن السياسة ولا تفقه إلا في النيل من الآخرين باسم الديمقراطية فأضرت بمصالح الوطن والمواطنين وتعدت على الثوابت.. هذا فضلا عن أن تكوينات بعض الأحزاب السياسية التي تدعي الوطنية شابتها الشللية والمناطقية الضيقة والطائفية والعنصرية المقيتة واما مفرخة ارتبطت بمصالح شخصية وفئوية ضيقة...

مما افقدها أهم ما يمكن أن يسندها وهو الفعل الوطني والتفاعل الجماهيري، ونظرا لانحرافها عن التعبير عن هموم الجماهير وإضرارها بالقضايا الوطنية.. وجدنا رئيس الدولة يقول في إحدى لقاءاته الأخيرة في عدن بما معناه " لا نحتاج إلى الحزبية والأحزاب إذا كانت ستضر بالمصلحة الوطنية " وهو في هذا على حق، فإما أن نشتغل سياسة مثل عباد الله في ارض الله ونتسابق بالبرامج السياسية النابعة من أحاسيس ومشاعر الملايين من أبناء اليمن...ونكسبها بصدق التعبير عن تطلعاتها وآمالها... وإلا فلا داعي لتشويه مفاهيم مكتسب الديمقراطية عفوا " التجربة الديمقراطية ".. وحين تكون الممارسة السياسية فاشلة ونعكس فشلنا على المكاسب الثورية والوطنية ونعود القهقرى فذلك لأننا فشلنا ولم تفشل المبادئ وما ارتضيناه من حقوق المشاركة في الفعل السياسي..

والحديث في هذا يطول ولا ينتهي بعد أن ادخل هؤلاء وهؤلاء البلاد في أنفاق مظلمة.. وأصابوا التجربة الديمقراطية في مقتل، وشوهوا صورة الوطن اليمني، واستخفوا بجماهير الشعب.. التي يتشدق الجميع بحرصه عليها وعلى حاضرها ومستقبلها بل ويتحدث بكل صفاقة باسمها.

نقول لكل هؤلاء.. اتقوا اله في إنسان اليمن العفوي المستكين يا هؤلاء، وخافوا الله فيه يا ساسة البلاد، واعلموا أنكم مسئولون عن كل فرد فيه، وعن مصالحه في الدنيا ونجاته في الآخرة ، واسألوا في هذا علماءكم ومرجعياتكم، كفوا أيديكم عن مقدراته وثرواته، عيشوا مع الشعب وقضاياه تحملوا المسئولية بشجاعة، أوفوا بالعهود والأيمان المؤكدة وقد جعلتم الله عليكم شهيدا وكفيلا..لا تكونوا عبئا ولا أوصياء على هذا الشعب بما لم يخولكم به.. الشعب الذي يعانى بقسوة من تداعيات الفشل الإداري، والتخبط الاقتصادي، والانفلات الاجتماعي والأخلاقي، والتخلف الثقافي والعجز الصحي والزراعي، والهذر الإعلامي والتربوي، وأخيرا الإفلاس السياسي الذي انتكست به التجربة الديمقراطية، فقد شبع من هكذا سياسة وهكذا ديمقراطية، وهكذا حرية وتعددية، وهكذا وطنية لا تغني ولا تسمن من جوع، وفاقة وإهدار كرامة، واستلاب إرادة، واستخفاف بكل حقوقه المادية والمعنوية.

ويخطئ من يظن أن قراءة الواقع اليمني في حال من الاستقرار والاطمئنان ولا تحتاج لمعالجة سريعة، كمن يغالط نفسه.. وما لم يتم تدارك كل تلك الأخطاء والسلبيات الظاهرة في كل اتجاه وليس على الواقع السياسي فحسب أو الصراع على السلطة.. كما يصورها لنا الفشل السياسي لدى جماعات التحزب الضيق، في التعامل مع معطيات التناول السياسي وفهم خصوصية الظرف الوطني فإننا سنظل ننتظر المجهول وبقلق تدفع البلاد أثمانه باهظة غالية.

زر الذهاب إلى الأعلى