[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

حين تتحرك الشعوب.. تهتز العروش!

لم يكذب التاريخ ولم تبالغ الوقائع والأحداث التاريخية حين تسجل للشعوب الحية انتفاضتها وتحركها لإحداث التغيير الذي تنشده، وهبتها لاسترداد إرادتها وحريتها المسلوبة، وإعلانها للملأ والقاصي والداني..

أنها صاحبة الكلمة الفصل في رسم خطوط وملامح حياتها وتطلعات مستقبل أجيالها، في كفاحها وجهادها لاسترجاع كرامتها والتعبير عن رفضها الخنوع وكل أساليب القهر والإذلال ومواجهة أنظمة الحكم الجائرة والمستبدة والمستهينة بشعوبها.. حتى في ظل أعتى الأنظمة البوليسية والقمعية الظالمة..

نعم هكذا يحدثنا التاريخ عن ديدن الشعوب الحرة حين ينفذ صبرها ويبلغ السيل الزبى " كما تقول العرب " فلا صوت يعلو فوق صوت الجماهير التي تقدم القرابين من الدماء الزكية والأرواح الطاهرة على مذبح الحرية، وتبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس، وتطلق العنان لعنفوانها كالسيل الجارف صوب استعادة الحقوق وصنع الحياة الحرة الكريمة كما أرادها الخالق سبحانه وتع إلى لبني البشر.

كثير من أجيالنا العربية يجهلون – بفعل فاعل – تاريخ هذه الأمة العظيم، وما قدمته الشعوب الحرة الأبية والمجاهدة حين ثارت على كل أنواع الاستبداد والاضطهاد واستلاب الحقوق والحريات من تضحيات جسام ورفضت كل أنواع الوصاية والظلم، وانتصرت لنفسها ضد كل محاولات مسخ هويتها وإلغاء كينونتها وتشويه عقيدتها وثقافتها العربية الإسلامية التي صاغها تاريخها التليد شرقا وغربا، سواء عبر المستعمر الأجنبي الذي جثم على ربوع الأراضي والشعوب العربية لقرون وعقود طويلة من الزمن لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل وجر معها المستعمر الغازي أذيال الخزي والعار، وذل الخيبة والهزيمة والشنار.

وسواء عبر المستعمر الوطني الذي تنكر لحقوق شعبه وجعل من نفسه وصيا على الشعب الذي يحكمه بالحديد والنار، وأذاق أبناء وطنه أنواعا من القهر والإذلال، وسلبه حقوقه المادية والمعنوية.. وتشبث – على اعتبار انه ابن البلد – بالعرش، وكرسي الحكم وطوع الدستور والقانون لخدمة أهدافه، في البقاء على كرسي الحكم مدى الحياة أو توارثه مع أبنائه وأقربائه وأسرته.

الشعوب الحرة تعي معنى الحرية وقيمتها، وأنها عامل مهم في صياغة الإرادة الشعبية والتعبير عنها.. وان لا قيمة للحياة الإنسانية بدون الحرية التي لا تقبل المساومة أو التفاوض، فضلا عن انتهاكها أو سلبها أو مصادرتها تحت أي مبرر..لذلك كانت قيمة الحرية غالية ودونها الدماء والأرواح...

وليس غريبا أن يصف " شوقي " هذه القيمة بقوله :
وللحرية الحمراء باب... بكل يد مضرجة يدق

نعم نقول - حفاظا على الهوية وصونا للكرامة وتعميقا للمفاهيم والقيم الأصيلة في الأمة وتحصينا لمجمل القيم والمبادئ والثقافة الوطنية الصحيحة النابعة من تراث وتاريخ الأمة المجيد الذي حقق الذاتية المستقلة، وكون الشخصية _ حفاظا على كل تلك العناوين وغيرها من التشويه والتحريف والتزييف - نقول لابد على أبنائنا وأجيالنا العربية أن تقرأ بتمعن تاريخ أمتها القديم والحديث، وان تتعلم دروسا كثيرة سطرها الآباء والأجداد من الثائرين والمصلحين والمجاهدين، وغيرهم من القامات والهامات السامقة التي وقف كثير من الأعداء قبل الأصدقاء احتراما لهم، وكانوا محط احترام وتقدير كل الأمم والشعوب، وضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، وقبل ذلك الثبات على المبادئ والانتصار لقيم الحرية والعدالة والمساواة وكل القيم والمبادئ العربية والإنسانية الأصيلة..

والذود عنها بكل السبل والاستعداد بالتضحية، فسجل لهم التاريخ انصع الصفحات... شأنهم شأن رسالة الأنبياء والرسل.. التي هدفت إلى خير البشر و إلى ما يحقق لهم الحرية.. ورفض استعباد البشر لبعضهم البعض وان لا عبودية إلا لله وحده لا شريك له، وان الناس سواسية كأسنان المشط وكذلك " ليعلمهم الكتاب والحكمة، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " وفي ذلك أيضا معنى من معاني الإخراج من الظلمات إلى النور..

إن تاريخ الشعوب حين يحفل بصنع الحياة الحرة الكريمة عبر كفاح ونضال وتضحية وفداء لا شك يعكس نفسه على حاضر أجيال هذه الشعوب، ويرسم بالتالي ملامح مستقبلها.. لذلك يحفل تاريخ امتنا بالصور والصفحات المضيئة في هذا الجانب والتي لابد من قراءتها وإعادة قراءتها لمرات ومرات.. بما يمكن الأجيال الحاضرة والمتطلعة إلى الغد الأفضل والأجمل من التوجه نحو ذلك وهي تحمل من هذه المشاعل ما ينير لها الطريق ويصوب الخطوات..

والحقيقة فان ما تشهده تونس من أحداث هذه الأيام بتطوراتها المتسارعة هو الدافع لتسطير هذه الكلمات.. لان ما يقوم به الشعب التونسي الشقيق.. وبكل فئاته وبمختلف مشاربه حدث وطني كبير وتاريخي حافل يرتبط ويعيد إلى الأذهان تاريخ جهاد هذا الشعب العربي الحر.. نعم ويعكس الحقيقة التاريخية للشعوب العربية الحرة المجاهدة..

نعم يسجل التاريخ للشعب التونسي الشقيق هبته وانتفاضته الجديدة ضد كل ما لحقه من أنواع الظلم والجور والاستبداد واستلاب حريته وامتهان كرامته فضلا عن تجويعه ومحاربته في لقمة عيشه، وتنغيص معيشته، وإنكار أي حق له، وقهره داخل وطنه، والسجن والعذاب لكل من ينطلق لسانه بالحق أو النقد، و نفي الأحرار من أبنائه عن وطنهم وأهلهم، وتشريدهم في أنحاء الأرض شذر مذر.. وممن من نظام يدعي انه ينتمي لهذا الشعب وانه يخدمه ويعبر عن مصالحة ويضمن مستقبل أجياله.. نعم انه نظام وطني للأسف.. لكن التيار الشعبي الجارف صبر كثيرا وتصابر أكثر لعل الأمور تتغير، ولعل رأس النظام يتفهم ويصحو من تخدير التشبث بالسلطة والحكم ولو على أشلاء ودماء زكية تقدم قرابين للخلاص والانعتاق من ظلم منوع طال أمده وليس له نهاية.... لكن لم يحدث من ذلك شيء.

بالمناسبة " الشاعر أبو القاسم الشابي " عربي الهوية تونسي الوطن صاحب الشعر الوطني والثوري.. ولا ادري هل ما تزال مناهج التربية العربية تتضمن الحديث عنه وترجمته ؟ أم أن قصته الإنسانية وأشعاره الوطنية المعبرة.. قد اعتبرت تحريضا على الإرهاب والتطرف..

قال رحمه الله في إحدى قصائده المغناة الشهيرة " وستظل ترددها الأجيال والأمم والشعوب الحرة التواقة للحياة الكريمة للبشرية كما أرادها لها الخالق سبحانه وتع إلى :

إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي.. ولا بد للقيد أن ينكسر

وحين تتحرك الشعوب الحرة الأبية... تهتز عروش الطغاة والمستبدين، بل وتتساقط الرؤوس المهينة.. ولا اخفي أني ومنذ استمعت لكلمة " بن علي " الأخيرة والتي انتظرتها منذ بداية الإعلان عنها أشفقت على كل الزعماء والحكام العرب.. وسيعذرني من تابع هذا الخطاب التوددي، والاعتراف المهين.. والفضيحة المعلنة من قائد عربي مخضرم في كرسي الحكم للطريقة التي يحكم بها هؤلاء شعوبهم ورغم خبرتهم - وربما خبثهم - لمدد طويلة.. وينوون البقاء على العرش أمد الحياة ؟ وربما حتى بعد الممات.

حين نستعرض عناوين ما تضمنه خطاب أو حديث " بن علي " المبكي المضحك، والسياسي...الخطير على البقية المماثلين، وكنت أتمنى منه أن يتقدم بنصيحة إلى أشقائه ونظرائه من الزعماء والحكام – خصوصا وقد لامس نهاية الأداء المر في قيادة شعب أبي حر - وحتى لا يصلوا إلى ما وصل إليه هو..!

وان يتفادوا المصير المذل الذي آل إليه بعد خدمة - كما حاول أن يستعطف الجماهير التونسية الثائرة بها -50 سنة لم تشفع له.. في مقابل ما عاناه الشعب التونسي من ضيق العيش وذل القهر واستلاب الحريات ومقدرات الوطن، من هذه العناوين فيما تشبه القرارات..التي وردت في الخطاب الأخير في محاولة الفرصة الأخيرة للبقاء وفي الوقت الضائع : (وهي تفصح عن نفسها ولا تحتاج إلى تعليق سوى عبارة واحدة فقط... وافضيحتاه.. ونعم القادة والحكام، ولا عزاء للأمة )..

* لقد فهمت التونسيين وفهمت مطالبهم.
* تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في مسئولية كل الأطراف بدون استثناء.
* تشكيل لجنة خاصة مستقلة لمكافحة الفساد والمفسدين.
* العمل على تدعيم الديمقراطية، وتفعيل التعددية.
* لا رئاسة مدى الحياة.
* قررت إعطاء الحرية الكاملة للإعلام بكل وسائله وإلغاء أي نوع من الرقابة.
* لقد تمت مغالطتي من قبل بعض المسئولين، وستتم محاسبتهم.

أحداث انتفاضة تونس الخضراء، والحمراء هذه الأيام، وغيرها من الأحداث المماثلة في بلدان عربية أخرى في مشرق الأرض العربية وغربها... وان بدرجات متفاوتة يجب فهمها في إطار أنها تعبير صارخ، وصوت هادر للشعوب العربية المقهورة من أنظمتها التي تدعي الوطنية.. وأوصلت الجماهير إلى حالات من الإحباط واليأس من الوعود التي وعدت به من عشرات السنين، وأنصاف القرون، ولم يبق أمامها إلا أن تنهض وتنتفض وتنتصر لنفسها، وتدفع الدم والروح ثمنا للخلاص.. نعم لقد أوصلت الأنظمة الجائرة والمستبدة هذه الشعوب إلى القناعة التامة بضرورة التغيير ونيل الحقوق بأي ثمن إلى الدرجة التي لم تعد تهاب الموت فهي تعايشه دائما.. ولا فرق في الشهادة تحت سياط الفاقة والجوع والمرض.. أو بسياط ورصاص جلاوزة الحكام الفاسدين والظالمين..

ولسان حالهم يقول:

وإذا لم يكن من الموت بد.... فمن العار أن تعيش جبانا
درس جديد من الشعب العربي في تونس..فهل من معتبر.... ؟

زر الذهاب إلى الأعلى