[esi views ttl="1"]
دراسات وبحوث

ثورة 25 يناير تعيد الحياة للشعب المصري

مساء الاثنين 24 يناير كانت الحياة في الشارع المصري تسير بهدوء اعتيادي مثل غيره من المساءات، كنت بمعية مجموعة من الشباب المصري في مقهى شعبي في وسط البلد، كان هناك حديث عن مظاهرات دعت اليها مجموعة من المنظمات الحقوقية وشباب الفيس بوك والتويتر على صفحات الانترنت..

اختلفت الآراء بين شباب مؤيد لتلك الدعوة، وآخرين مشككين في جدواها وأنها لن تختلف عن سابقاتها من التظاهرات التي استطاع النظام قمعها،والسيطرة عليها، كان هناك متحمسون وآخرون متخوفون، خاصة ان الاجهزة الامنية اعلنت سلسلة من الاجراءات الاحترازية كمنح الموظفين إجازة واغلاق الجامعات والمعاهد المصرية لمنع التظاهر والتجمع مع تحذير الموظفين من المشاركة في تلك المظاهرات وانها ستقمع وبقوة المشاركين.

كان المشهد في القاهرة وبقية المدن المصرية مختلفا ومغايرا مع انتصاف يوم الثلاثاء 25 يناير الذي غير وجه مصر للابد واصبح علامة فارقة بين مصر فبل 25 يناير وبعده.

خبز – حرية – كرامة إنسانية – ثلاثة مطالب أساسية كانت البداية لشباب ثورة 25 يناير المصرية التي نظمها الشباب المصري في ذكرى يوم الشرطة المصرية، وكان حركة الاحتجاجات التي دعا لها الشباب المصري الناشط عبر شبكة الانترنت خاصة عبر موقعي الفيس بوك والتويتر والآف المدونات عبر بذل جهود كبيرة لشباب 6 ابريل وكلنا خالد سعيد بالاضافة لـ17 جهة من القوي سياسية والاحزاب السياسية المصرية جميعها دعت الي المشاركة في مظاهرة 25 تحت شعار ( حرية- عدالة-مواطنة)

قامت تلك القوى بحشد الشباب المصري وادارة نقاشات واسعة عبر المواقع الاجتماعية لتنظيم تلك الاحتجاجات التي كانت تدعو في بدايتها لمحاسبة قيادات الشرطة والامن على الانتهاكات والتعامل الوحشي لافراد الشرطة ضد المواطنين وقمع وملاحقة الشباب والناشطين في مجال حقوق الانسان وقتل وملاحقة عدد من الشباب والمدونين المصرين والذي من أبرزهم سيد بلال، والمدون المصري خالد سعيد الذي قتل بوحشية وبدم بارد في مدينة الاسكندرية من قبل عناصر تابعة لأجهزة الأمن التي حاولت تلفيق عدد من التهم للمدون خالد سعيد.

استجاب لدعوة الشباب عدد كبير من طلاب الجامعات والشباب العاطل عن العامل من خريجي الجامعات واعضاء النقابات المهنية وبعض التيارات السياسية وناشطين حقوقيين وصحفيين وفنانين في معظم المحافظات المصرية ووزع شباب الفيس بوك عبر صفحاتهم الشخصية وصفحات المجموعات والتي من ضمنها صفحة شباب 25 يناير وعشرات الصفحات الاخرى ارشادات حول اماكن التجمعات والاحتجاجات والشعارات الاحتجاجية ومطالب المحتجين وطريقة التعامل مع رجال الشرطة مع التأكيد على اهمية الانضباط وعدم الانجرار للعنف أو استفزازات رجال الامن، بالاضافة لسلسلة من النصائح حول استخدام وسائل وقائية تحسبا لقيام الشرطة باستخدام العنف والغازات المسيلة للدموع، حيث طلبوا من الشباب استخدام البصل والخل ومشروب البيبسي للوقاية من تلك الغازات.

الاجهزة الامنية كانت متابعة لتلك النشاطات والتحركات للشباب على المواقع الاجتماعية، فبادرت في الساعات الاولى ليوم الثلاثاء بنشر اعداد كبيرة من رجال الامن والحواجز الامنية والمدرعات في احياء القاهرة وفي ميدان التحرير على تحديدا تم نصب الحواجز فيه وفي الشوارع المؤدية اليه بشكل كبير، وخلال تجولي في الساعات الاولى من يوم الثلاثاء مع مجموعة من الاصدقاء المصريين وتحديدا في الساعة الثالثة صباحا لاحظت الانتشار الكثيف للجنود والحواجز وأخبرني اولئك الشباب ان تلك القوات ليست سوى البداية فقط وأن اعداد كبيرة ستنزل للشارغ مع بزوغ شمس يوم الثلاثاء 25 يناير، وهو فعلا ما حدث.

في منتصف يوم الثلاثاء كانت القاهرة قد تحولت لثكنة عسكرية واقفلت قوات الامن كل الشوارع المؤدية لميدان التحرير وبدأت قوات الامن في منع وصول المحتجين لميدان التحرير مع السماح لكل مجموعة بالاحتجاج في المنطقة التي توجد فيها وتطويقها بأعداد ضخمة من رجال الامن تفوق اعداد المحتجين، وسمحت تلك القوات للراغبين من المواطنين بالانضمام للمظاهرة داخل الطوق الامني المفروض مع منعهم من التواجد خارج الطوق الامني وبعد حوالي ثلاث ساعات بدأت قوات الامن بأغلاق الشوارع التي يتواجد فيها المحتجين ولم تسمح لأي من المحتجين بمغادرة موقع الاحتجاج نهائيا، رغبة منها في احداث ضغط نفسي وارعاب المحتجين عبر الزج بتعزيزات ضخمة من المجندين لاماكن الاحتجاجات.

كانت الشرارة الاولى حدثت عندما استخدمت قوات الامن القوة لتفريق المتظاهرين في مدينة السويس والاسكندرية وميدان التحرير وسيناء وقد استخدمت تلك القوات الرصاص الحي ضد المحتجين واطلقت الغازات المسيلة للدموع وحاولت فض تلك التجمعات السلمية وقد سقط يوم الثلاثاء عدد من الجرحى والقتلى واستمرت الاحتجاجات والمحتجين صامدين حتى وقت متأخر من مساء الثلاثاء وانتهى الثلاثاء بعد احراق عدد من السيارات التابعة للامن في مدينة السويس وميدان التحرير.

وقد سقط خلال اليوم عشرات القتلى والجرحى من المتظاهرين وأعلن المحتجين انهم سيبيتون في ميدان التحرير ويواصلوا احتجاجهم وأعلنت وزارة الداخلية إنها لن تسمح بخروج أي مظاهرات في ميدان التحرير أو أي مكان آخر وانها ستستخدم القوة لفظ تلك المظاهرات لكن تلك التهديدات لم تمنع الشباب المصري من البقاء في ميدان التحرير ومناطق اخرى في القاهرة والمحافظات الاخرى.

وخلال اليوم اعتقلت قوات الامن مئات الشباب الناشطين ونقلت المصابين في المظاهرات من المستشفيات إلى مديرية الامن.

استمر الشباب المصري في التظاهر بقوة يومي الاربعاء والخميس في القاهرة وبقية المدن قبل ان تقرر حركة الاخوان المسلمين والاحزاب المصرية الاخرى والشخصيات السياسية المعارضة الدخول بشكل علني في تلك المظاهرات وهو ماحدث عندما اعلن محمد البرادعي عن اعتزامه للعودة لمصر للمشاركة في مظاهرات جمعة الغضب ودعوة قيادات في جماعة الاخوان لاعضائها بالمشاركة القوية في فعاليات جمعة الغضب التي دعا لها الشباب في مختلف المحافظات المصرية للمطالبة باسقاط النظام وتقديم المسئولين في وزارة الداخلية والحزب الوطني للمحاكمة جراء القمع الشديد للمتظاهرين في الايام السابقة.

جمعة الغضب

رغم العنف الذي ووجه به الشباب المصري في مختلف المحافظات المصرية خلال الثلاثة الايام الماضية ظهر جليا أن ذلك القمع والعنف المفرط من قبل قوات الامن في مواجهة الشباب الذين كانوا يؤكدون خلال تظاهراتهم انها تظاهرات سلمية وأن مطالبهم هي حقوقية بالدرجة الاولى، اسهم ذلك العنف والتعامل الوحشي في رفع مستوى التذمر الشعبي والتعاطف مع شباب 25 يناير واستجابة كبيرة لدعوة الشباب للمشاركة في جمعة الغضب، والتي ارتفع خلالها سقف المطالب السابقة للمشاركين في مظاهرات الثلاثاء 25 يناير من المطالبة بمحاسبة الاجهزة الامنية إلى المطالبة باسقاط النظام ورموز الحزب الوطني وحكومة رجال الاعمال، وزارة الداخلية المصرية استنفرت جل قواتها استعدادا للمواجهات مع اعداد المتظاهرين الذين تم تحديد انطلاقهم من جميع مساجد مصر، واحاطت قوات الامن ووحدات مكافحة الشغب و الارهاب بالمساجد والساحات العامة، وفور انتهاء صلاة الجمعة قامت قوات الامن باطلاق القنابل الدخانية والقنابل المسيلة للدموع على جموع المصلين الخارجين من المساجد مما ادى لاختناق واصابة عدد من المصلين، ذلك الإجراء اجج صدور المصلين وجعلهم يبدأو في رمي قوات الامن بالحجارة والزجاجات الفارغة وشهدت مناطق مختلفة في القاهرة والجيزة مواجهات عنيفة نجم عنها سقوط عدد من القتلى بالرصاص الحي واحراق عدد من سيارات الشرطة وانتقلت تلك العدوى لبقية المدن المصرية حيث استخدمت قوات الامن الرصاص الحي والرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع واعتقلت المئات الا ان تلك الاجراءات لم تفلح في قمع المتظاهرين فقد انكسر حاجز الخوف وشاهدت عدد من الشباب المصري في ميدان التحرير وفي جسر 6 اكتوبر وفي شارع القصر العيني يقفون في مواجهة العربات المصفحة بقوة وثبات على الرغم من دهس تلك العربات لعدد منهم، رفع الشباب المصري اكفهم بالدعاء في مواجهة القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه، التي تم يثنها عن قذف الشباب المصري بالقنابل والمياه قيامهم بالصلاة في ميدان التحرير وفي بقية المناطق، كان الآف الشباب يقومون بأداء الصلاة وسط المواجهات مع رجال الامن في الشوارع والميادين العامة فور رفع الاذان لاحدى الصلوات، وكانت العربات المدرعة تلقي عليهم القنابل وهم صامدون في صلاتهم.

فشلت الاجهزة الامنية في قمع المتظاهرين واعادتهم لمنازلهم بحلول منتصف يوم السبت كما وعد وزير الداخلية المصري حبيب العادلي الرئيس حسني مبارك، الذي قرر الاستعانة بقوات الجيش واعلان حظر التجوال، وردا على تلك التوجيهات أصدر وزير الداخلية توجيهاته لقوات الامن بالانسحاب التام واخلاء اقسام الشرطة وادارات الامن، وخاطب الرئيس مبارك قائلا خلي الجيش ينفعك كما ذكرت صحيفة المصري اليوم، وتم اطلاق جميع الموقوفين والبلاطجة في اقسام الشرطة وتسليحهم للقيام باعمال سلب ونهب واسعة النطاق في عدة مناطق من القاهرة حيث تم نهب البنوك والمحلات التجارية واحرق اكثر من اربعين قسما للشرطة وسادت حالة من الفوضى العارمة والرعب في اوساط السكان خاصة ان الجيش تأخر في النزول للشارع وعندما نزل اكتفى بالتواجد بالقرب من عدد من الوزارات والمصالح الحكومية وميدان التحرير.

وقد كشفت وسائل الإعلام المصرية وثائق تثبت وقوف الأجهزة الأمنية والحزب الوطني وراء تلك الأحداث في محاولة لاخافة المصريين ومقايضتهم بالتراجع عن مطالبهم في إسقاط النظام مقابل قيام اجهزة الامن بالعودة للشارع وإعادة الأمور إلى نصابها، وأسقط الشعب المصري ذلك المخطط عبر تكفلهم بحماية الشارع المصري وايقاف عمليات البلطجة عبر تشكيل لجان شعبية في كل الاحياء والمدن المصرية ونجحت تلك اللجان في القبض على عدد من البلطجية والمخربين الذين كان هناك عدد كبير منهم يحملون بطائق وزارة الداخلية المصرية.

وكانت المفارقة المؤلمة التي استمعت اليها خلال لقائي بعدد كبير من المصريين خلال جولة قمت بها صباح يوم الاحد هي صدمة المصريين جراء انسحاب قوات الامن من الشوارع واطلاق البلطجية والمجرمين من السجون ومشاركة عدد من افراد الشرطة في عمليات النهب والسلب وكان لسان الحال يقول حاميها حراميها.

وعلى الرغم من اعلان حظر التجوال فقد استمرت الحياة تسير بشكل شبه طبيعي وتولى شباب الاحياء حفظ الامن في الشوارع واقامة حواجز تفتيش بحثا عن بلطجية يحملون اسلحة أو مسروقات.

وقد نجح الشباب في منع اعمال السلب والتهب والتخريب واتلاف الممتلكات العامة واستطاعوا اقامة حاجز بشري لحماية المتحف المصري من البلاطجة كما قاموا بحماية مستشفى السرطان الذي حاول البلاطجة نهب معداته،بالإضافة لمئات المرافق العامة والممتلكات الخاصة والقوا القبض على مئات المجرمين وتسليمهم لقوات الجيش.

حالة الفوضى التي سادت بشكل مؤقت جراء الانسحاب الغامض لعناصر الامن انعكست ايجابيا على الشارع المصري الذي رسم صورا رائعة للتلاحم الوطني بين مختلف مكونات الشعب المصري واعاد الثقة للشخصية المصرية التي مارس النظام المصري ضدها خلال سنوات طويلة ممارسات لكسرها وإذلالها،ونجح المصريين في الحفاظ على الامن والاستقرار في الشارع المصري والحد من اعمال السرقة، وشهد الشارع المصري نضجا سياسيا ووعيا مجتمعيا عاليا واستمرت الحياة الاعتيادية خارج ميدان التحرير على الرغم من غياب كل مظاهر الدولة واستمرت المخابز والافران ومحلات الخضروات والفواكة والبقالة في العمل خلال ساعات النهار إلى ما قبل وقت حظر التجوال، الذي لم يكن ساريا بالمعنى الحرفي لذلك المفهوم فالناس متواجدين طوال الوقت في الشوارع اما لحماية الاحياء أو الجلوس في المقاهي الشعبية،وكان الشباب يذهبون خلال ساعات حظر التجوال لميدان التحرير للمشاركة في حركة الاحتجاجات.

وعلى الرغم من تشديد الجيش على ضرورة الالتزام بحظر التجوال لكن عمليا لم تكن هناك جهة تستطيع متابعة تنفيذ ذلك الأمر على الميدان.

ثورة شعبية عارمة

الشارع المصري كانت مبتهجا بما انجزه الشباب من ثورة اعادة الكرامة له واستطاعت رفع سقف مطالبات الشعب المصري وشهد الشارع المصري نقاشات عالية المستوى واحتفاء بانجاز الشباب وجيل الفيس بوك الذين حققوا مافشلت في تحقيقه الاجيال السابقة، غالبية الناس الذين دخلت في نقاش معهم كانوا مؤيدين لمطالب الشباب باسقاط النظام ورحيل الرئيس، وعلى الرغم من عدم صرف مرتبات العاملين في الدولة واغلاق البنوك وتوقف الاعمال بشكل شبه تام الا ان الجميع كانوا يؤكدون استعدادهم للصبر وتحمل الوضع لحين اسقاط النظام.

كنت في جمعة الغضب متواجدا في شارع القصر العيني المؤدي لميدان التحرير اقوم بالتقاط صور مدفوعا بالفضول الصحفي ورغبتي في رؤية ما يحدث.

شارع القصر العيني يوجد فيه مجلسي الوزراء والشورى ومقر الحزب الوطني أمانة القاهرة، وعدد من المصالح الحكومية الاخرى كان هناك الاف الشباب الذين يحاولون الوصول لميدان التحرير وتم منعهم من قبل قوات الامن التي استخدمت الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع في محاولة لتفريق المتظاهرين، وأصيب عدد كبير من المتظاهرين بحالات اختناق وإغماء، وكان المتظاهرين مصرين على الصمود بقوة، وكان عدد من الشباب يقومون بسحب المصابين والمختنقين، وكان هناك عدد من الشباب يوزعون مناديل وقطع قماش مبللة بمادة الخل على المتظاهرين للتخفيف من حالات الاختناق بينما يحمل آخرون علب البيبسي ويقومون بسكبها لايدي المصابين باختناق لغسل عيونهم من اثر الغازات، وكانت تلك طريقة ناجحة جدا وقد جربتها عند تعرضي لتلك الغازات حيث اعطاني احد الشباب منديلا مبللا بمادة الخل، وسكبت احدى المشاركات في يدي مشروب البيبسي كي اغسل عيوني، كان هناك مئات من النساء والاطفال بتفرجون على المتظاهرين من شرفات منازلهم، وقد شاهدتهم يلقون للمشاركين حبات البصل كي يتنشقوها لازالة اثر الغازات على الجهاز التنفسي، كما قامت بعض الفتيات بتقطيع الملايات والطراريح ورميها للمشاركين كي يضعوها على وجوههم بعد تبليلها بمادة الخل، وعكست تلك المبادرات تلاحم جميع المصريين في مواجهة القمع الامني ورغبة جميع المصريين في المشاركة في ثورتهم.

ميدان التحرير

تحول ميدان التحرير وسط القاهرة إلى المنطقة الاكثر اهمية في تاريخ مصر حيث كان يصفه الشباب المصري بمقر قيادة الثورة وتلك الرمزية للمكان جعلت الشباب المصري يستميت في عملية الدفاع عنه والصمود فيه امام مختلف محاولات اخراجهم منه سواء عبر قوات الامن أو بلاطجة النظام، واصبح بمثابة منتدى سياسي يجتمع فيه المصريين بجميع فئاتهم يعبرون فيه عن تطلعاتهم للحرية والانتقال بمصر إلى عصر مغاير لذلك الذي كان قبل 25 يناير، فمصر ميدان التحرير هي مصر الحقيقية مصر الصمود والحرية والتلاحم والتضحية،كانت الآف الحناجر في ميدان التحرير تهتف بعشرات الشعارات المنددة بالنظام وبالاستبداد والظلم والممتلئة بحب مصر والمنادية بسقوط النظام ورحيل الرئيس مبارك.

تعامل شباب الثورة مع ميدان التحرير بصفته بيتهم وكنت اشاهد عشرات الشباب والشابات يقومون بكنس ساحات الميدان وتنظيفه وازالة المخلفات منه بشكل مستمر وهم يرددون الاغاني الثورية والوطنية التي تغنت بالثورة وحب مصر وكانت اغاني الشيخ امام حاضرة بقوة في ميدان التحرير.

لم يكن الشباب المتواجد في ميدان التحرير مهتما بالخطابة والخطباء السياسيين الذين توافدوا لميدان التحرير لالقاء خطابات سياسية ولم يكن البرادعي أو ايمن نور أو السيد البدوي وغيرهم من الشخصيات السياسية هم نجوم الميدان بل اولئك الشباب الذين فظلوا البقاء كجنود مجهولين لحماية ثورتهم بشكل جماعي وبدون زعامات فردية وكانوا يهتفون طوال الوقت بشعاراتهم وأغانيهم قائلين ان الثورة مش خطابات وتصفيق بل صمود وتضحية، ولم يمنعوا احدا من الامساك بالميكرفون أو يهاجموه، فقد اظهروا نضجا سياسيا اعلى بكثير من ذلك الذي يدعي زعماء الاحزاب السياسية انه ما ينقص أولئك الشباب، كيف لا وتلك هو ثورة الشباب.

وفي واحدة من ابرز صور التلاحم كان الشباب المسلم يؤدون صلواتهم بشكل جماعي عند دخول وقت الصلاة وكان الشباب المسيحيين يقومون بحمايتهم وتأمين مداخل الميدان خوفا من دخول مندسين أو عناصر امنية.

كان الشباب يتقاسمون الزاد والماء وكان من يحصل على طعام يصر على مشاركة اكبر عدد من الموجودين في تلك الوجبة البسيطة التي غالبا ما كانت عبارة عن قطع من البسكويت أو التمر والمياه.

كان ميدان التحرير هو المنطقة التي استقطبت المئات من السياح الاجانب الذين جاءوا لمشاهدة الثورة عن قرب والتقاط الصور التذكارية مع الشباب المشاركين وعبرو عن سعادتهم ومساندتهم المعنوية للشباب وقام عدد منهم بتوزيع الورود على السباب، اللافت هو انه على الرغم من التواجد الكثيف للفتيات في ميدان التحرير لم تسجل أي حالة تحرش أو مضايقة لتلك الفتيات ولم تسجل حوادث عنف بين الشباب أو عمليات سرقة وفي ذلك دلالة واضحة على ان من هم في ميدان التحرير هم نخبة مصر وشبابها الواعي والمؤمن بقضيته وعدالة ثورته.

لم يكن شباب الثورة معنيين إلى حد كبير بالدخول في مفاوضات مع النظام سواء بشكل مباشر أو مع الاحزاب السياسية كان ردهم على الدوام هو ان لديهم مطالب واضحة وهي اسقاط النظام ومحاسبة الفاسدين ورحيل الرئيس مبارك.

كانت مطالب الشباب واضحة لكن يبدو ان الرئيس المصري لم يكن وحده هو الذي لم يفهم رسالة الشباب فقد كانت هناك شخصيات سياسية لم تفهم الرسالة مثل امين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى ومحمد البرادعي وقيادات الاحزاب ولجنة الحكماء والحزب الوطني ونائب الرئيس عمرو سليمان الذين كانوا يقدمون عروضا باستعداهم لترشح للرئاسة، وهو ماعبر عن البرادعي منذ وقت مبكر عندما قال ان لديه تفويض مباشر من الشباب والقوى السياسية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، أو عمرو موسى الذي قال انه مستعد للترشح لرئاسة مصر وطالب الشباب بالتهدئة والحوار مع الحكومة، وذلك مارفضه الشباب المعتصمين في التحرير.

* تاخر الاستجابة

تفاجأ النظام المصري بصمود الشباب أمام آلة القمع الأمنية واستمرارهم في مواجهة استخدام الأجهزة الأمنية على الرغم من استخدامها كل ادوات القمع والتنكيل وكامل ترسانتها من الاسلحة والمعدات والاعداد الهائلة من قوات الامن والمخبرين والشرطة السرية، كان معظم المصريين الذين تحدثت معهم خلال الأيام الأربعة الاولى من ثورة الشباب يتوقعوا ان يستجيب النظام على أي مستوى لمطالبات الشارع لكن تلك الاستجابة لم تحدث سريعا وكان من الممكن ان تسهم الاستجابة السريعة في تهدئة الشارع المصري،ويمكن استعراض كيفية تعامل النظام مع مطالب الشباب بنوع كبير من الاستخفاف والاستهانة فقد صدر مساء الثلاثاء بيان من وزارة الداخلية المصرية يحذر الشباب من الاستمرار في المظاهرات واتهمهم بالتخريب وحمل بيان الداخلية جملة من الوعيد والتهديد للشباب، الحزب الوطني وعلى لسان امينه العام صفوت الشريف قال ان حزبه يتفهم مطالبات الشباب لكنه لم يدين تعامل اجهزة الامن مع المتظاهرين وقال ان مصر ليست تونس وانه سيتم مواجهة تلك المظاهرات بحزم من قبل اجهزة الامن، باستثناء تلك التصريحات كان هناك صمت مريب من الحكومة والرئيس المصري، كان عدد من الناس يتساءلون عن سبب عدم ظهور الرئيس أو احد المسئولين في الحكومة لطمانة الناس أو الاعلان عن الاستجابة لمطالب الشباب ومحاسبة اجهزة الامن جراء قتل المتظاهرين، باعتقادي ان النظام المصري أخطأ كثيرا في تقديراته للواقع في الميدان على الرغم من اتساع رقعة المظاهرات التي شملت كافة المحافظات المصرية، وفضل استخدام الحل الامني بناء على خبرة سابقة للاجهزة الامنية المصرية في قمع الاحتجاجات والسيطرة عليها، كما انه كان مازال تحت تأثير صدمة ما وقع في تونس من ثورة أطاحت بالنظام التونسي، لذلك ظهرت استجابة النظام بطيئة بعكس سرعة الاحداث التي شهدها الشارع المصري، ظهور الرئيس مبارك كان متأخرا كثيرا وكذلك لم يستوعب في خطابه الموجه للشعب المصري ان سقف التنازلات التي قدمها جاءت اقل بكثير مما كان الشارع المصري يتوقعه، فتلك التنازلات التي كان منها اقالة الحكومة وتعيين عمر سليمان نائبا للرئيس واقالة امين عام السياسات في الحزب الوطني احمد عز كانت لتحدث فارقا وتسهم في تخفيف حالة الغضب الجماهيري لو جاءت قبل جمعة الغضب وبعد يوم الثلاثاء مباشرة،ولم ترضي تلك الاجراءات الشباب المصري الذي قد سقط خلال ثورتة اكثر من 125 شهيدا والآف الجرحى.

ذلك الخطاب لم يرضي الشباب أو الشارع المصري واسهم في رفع سقف مطالبات الشباب من اسقاط النظام لاسقاط الرئيس وتعالت الصيحات في المدن المصرية تردد شعار الشعب يريد اسقاط الرئيس.

مبارك في خطابه الثاني مساء الثلاثاء 1فبراير تلاعب بوتر العواطف وذرف دموع التماسيح في محاولة للحفاظ على بعض ماء وجهه المراق بعد نجاح الشباب في ايصال صوتهم بقوة وبوضوح المطالب برحيلة ذلك الخطاب احدث نوعا من التعاطف في اوساط بعض شرائح المجتمع المصري لكن تصرفات مؤيدي مبارك صباح اليوم التالي عندما هاجموا المعتصمين في ميدان التحرير بالجمال والخيول وقنابل المولتوف والحجارة التي نجم عنها استشهاد عدد من المعتصمين في الميدان واصابة اعداد كبيرة منهم بجروح خطيرة، كانت ذلك السلوك الهمجي بمثابة تعميد لنجاح ثورة الشباب، بعد صمودهم في وجه البلاطجة والذين كان عدد كبير منهم من عناصر الشرطة المصرية، ووجه المعتصمين رسالة بصمودهم مضمونها انه اذا كان الرئيس عنيدا في عدم الاستجابة لمطالبهم في الرحيل فهم اكثر عنادا منه في الصمود وراء مطالباتهم برحيلة.

* دور الجيش

يتمتع الجيش المصري الذي يعد اقدم جيش في المنطقة وعاشر اكبر جيش في العالم بسمعة جيدة وإحترام كبير في مختلف الاوساط السياسية والشعبية المصرية وذلك ما ظهر واضحا منذ اللحظات الاولى لدخول الاليات العسكرية التابعة للجيش لمدينة القاهرة حيث خرج المصريين للاحتفاء بتلك القوات، ويأتي دخول الجيش على خط الازمة استجابة لدعوة الرئيس مبارك الذي يحمل صفة الحاكم العسكري، بعد خروج الامور عن سيطرة قوات الامن المصري وهذه هي المرة الثالثة لنزول الجيش المصري للشارع لاعادة الامور إلى نصابها ومنع العنف منذ الثورة المصرية حيث نزل الجيش المصري لاول مرة خلال مظاهرات يوليو 1978 فيما عرف بانتفاضة الطلبة في عهد الرئيس السادات والمرة الثانية في العام 1986 لقمع انتفاضة قوات الامن المركزي التي طالبوا خلالها بزيادة مرتباتهم.

منذ اللحظة لدخول قوات الجيش للمدن المصري ابتهج المواطنون بوصولها بل ووصل الامر لاعتلائها من قبل جماهير المتظاهرين والتقاط الصور التذكارية فوقها أو إلى جوارها.

منذ اللحظة الاولى أعلن الجيش المصري انه لن يقف ضد رغبة ومطالبات الشباب وانه لن يستخدم العنف لقمع المتظاهرين، وعلى عكس قوات الامن التي استخدمت العنف المفرط تعامل الجيش بحيادية مفرطة ولم يتدخل لفرض حالة الامن في بعض الاحياء التي تعرضت لأعمال سلب أو نهب ومثلما لم يمنع الشباب من التظاهر لم يقم أيضا بحماية المتظاهرين في ميدان التحرير أو الصحفيين ووسائل الإعلام من اعمال العنف التي قام بها البلاطجة ومؤيدي الرئيس مبارك الذين هاجموا المعتصمين بالخيول والجمال يوم الاربعاء الماضي، وخلال الايام الاخيرة شهد سلوك قوات الجيش نوعا من التحول الجزئي باتجاه محاولة اغلاق المداخل المؤدية لميدان التحرير والتضييق على وصول المواد الغذائية والأدوية للمعتصمين في الميدان بالإضافة لمناشدة المعتصمين لإنهاء اعتصامهم، لكن الجيش لم يلجأ لاستخدام العنف تجاه المعتصمين.

وفي المقابل تعامل المعتصمين بحس عال تجاه الجيش ولم يحاولوا استفزاز الجيش أو الدخول في مواجهات معه وقد شاهدت خلال تواجدي في ميدان التحرير قيام المعتصمين بتوزيع الورود على افراد الجيش والتأكيد في العديد من الهتافات على ان الشعب والجيش يد واحدة وان الجيش سيقف إلى صف المعتصمين ومطالبهم.

* الرهان على الزمن

بات من الواضح ان النظام الحالي بشخوصه الحاليين وبالتواطء مع الجيش والحزب الوطني يراهنون على الوقت وان المعتصمين في ميدان التحرير سيصابون بالملل والتعب خلال الفترة المقبلة وقد يستطيع النظام بادواته القديمة شق تلاحم وتماسك المعتصمين، يكون ذلك بالتوازي مع الاستجابة البطيئة والجزئية لبعض مطالب الشباب باسلوب القطارة، والالتزام بتقديم وعود بالاستجابة لتلك المطالب وإجراء إصلاحات شكلية، وتقديم مجموعة من رموز النظام ككباش فداء لايهام المعتصمين بجدية النظام في السير نحو اجراء اصلاحات سياسية واقتصادية تسهم في نخفيف حالة الغضب الشعبي وتجهض ثورته مع عدم الاستجابة الحقيقية لمطالب المحتجين باسقاط النظام، وذلك ماحدث فعلا خلال الايام الماضية عبر سلسلة إجراءات تمثلت في اقالة الحكومة السابقة وتشكيل حكومة جديدة نصف وزرائها كانوا اعضاء في الحكومة السابقة، واقالة المكتب السياسي للحزب الوطني وتعيين مجموعة اخرى من الجناح الذي كان متضررا من سياسات المكتب السابق الذي كان يرأسه صفوت الشريف نجل الرئيس جمال مبارك واحمد عز، وهو ما يعكس وجود صراع كبير وواضح في اجنحة الحزب الوطني ويؤكد انتصار الحرس القديم في الحزب الوطني، مع انه كان من المفروض حل الحزب الوطني الذي يعد احد أضلاع معادلة اسقاط النظام، الذي بقية اطرافه الرئيس مبارك ومجلسي الشعب والشورى واسقاط الدستور الحالي الذي تم تفصيله على مقاس الحزب الوطني والرئيس مبارك.

* الايام القادمة ستشهد صراع ارادات بين المعتصمين ومطالبهم المشروعة وارادة النخبة السياسية الحاكمة والحرس القديم الذي اظهر تماسكا مخيفا بين اطرافه وقدرته على احكام السيطرة على الجيش المصري الذي يبدو انه يقع بين كماشة الولاء للرئيس مبارك وبين امل الشعب المصري في ان يقف الجيش إلى جانب ثورته.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى