[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

مجلة السياسة الخارجية الأمريكية: وداعا صالح.. اللعبة انتهت

بينما كانت كاميرات الأخبار في العالم تنتقل من تونس إلى القاهرة إلى عمان، كان مراسلو التلفزيون يتكهنون بتلهف أين ستنطلق الحركة الديمقراطية التالية في العالم العربي؟ إلا أن الحماس يتحول إلى قلق لا مفر منه عندما تنتقل الصور بسرعة إلى صنعاء، عاصمة اليمن، البلاد النائية، لتلتقط هتافات المتظاهرين ورفرفة اللافتات التي يحملونها.

وفيما كانت الجماعات المحلية المهمشة كالإخوان المسلمين في مصر، والمعارضة الإسلامية في تونس، مفيدة في الغالب كفزاعات [أو كأوراق القصدير اللامعة] لإقناع الغرب على الاستمرار في إرسال المساعدات العسكرية، إلا أن المعادلة في اليمن مختلفة: حيث يقع فرع تنظيم القاعدة الأكثر نشاطا هناك. ومع ذلك فالنتيجة، تؤكد أن قلة قليلة فقط في الغرب من يتحمسون كثيراً للديمقراطية في صنعاء، حيث يُحكم الرئيس اليمني علي عبدالله صالح وأجهزته الأمنية القبضة على السلطة في اليمن الشمالي منذ عام 1978 واليمن الموحد منذ العام 1990.
إلا أن ما جعل صالح يخرج عن دائرة الجدل هو الزعم أنه وحده القادر على قيادة بلد صعب مثل اليمن، وأنه يقاتل فرع تنظيم القاعدة المتنامي في البلاد، ويمنع المنطقة من الانفجار. وفي المقابلات، يستخدم صالح استعارة لفظية لوظيفته لطالما سعى من خلالها إلى تضليل الإعلاميين الغربيين الذين يقابلونه بقوله: حكم اليمن "يشبه الرقص على رؤوس الثعابين".

والغريب أن تلك الحيلة انطلت على الغرب ليؤمن فعلاً أن صالح هو –راقصه– المثالي [البارع] على رؤوس الثعابين، ولاسيما منذ أن بدأ فرع تنظيم القاعدة في اليمن بتصعيد الهجمات ضد الغرب، بما في ذلك محاولة إسقاط الطائرة التي كانت متجهة إلى ديترويت أواخر عام 2009.

على سبيل المثال، في مقالة كتبتها في صحيفة نيويورك تايمز في 5 فبراير، دافعت الصحفية فيكتوريا كلارك عن مسألة كفاءة صالح، حيث قالت إنه وبالمقارنة مع المتظاهرين اليمنيين المناصرين للديمقراطية في اليمن: فإن " السيد صالح لا زال يبرع في مهمة قيادة اليمن، البلد الأفقر في العالم العربي، وهي المهمة غير المغرية التي غالباً ما يشبهها ب 'الرقص على رؤوس الثعابين". (وكلارك هي مؤلفة كتاب عن اليمن عنونته، كما قد يتبادر إلى ذهنكم، ب اليمن: والرقص على رؤوس الثعابين ).

عندما يتعلق الأمر بصالح ونظامه، فعلى أية حال، فإن كلارك -مثل الكثير من المراقبين الغربيين– يخلطون "القيادة [السيطرة]" ب "البقاء في السلطة". فصالح قد يكون قادراً في المحافظة على رئاسته الخاصة، إلا أنه لم يفعل شيئا يذكر لرفاهية بلده الذي ينهار.

فقد أمسك صالح البلد الأكثر خصوبة في العالم العربي الذي يفترض أنه يمتلك ما يكفي من النفط لتلبية متطلبات التنمية الاقتصادية لعقود مقبلة، إلا أنه حولها تقريباً إلى أشبه بالصحراء المقفرة وفقاً للأرقام الإحصائية الخاصة بالصحة التي تعتبر البلد هي الأسوأ مما كانت عليه معظم البلدان الإفريقية في جنوب الصحراء الكبرى.

إن صالح ونظامه المرتكز أساسا على الجيش يقود البلاد إلى حقل ألغام سياسي وديموغرافي (سكاني)، وأنه كما ثبت بالفعل أبعد بكثير من قدرتهم الاستيعابية للخلاص منه. إن الانتقال المفاجئ بين عشية وضحاها إلى الديمقراطية قد لا يكون هو الحل; إلا أن استمرار صالح في قيادة البلاد هو النقيض تماماً لحل مشاكل اليمن العديدة، بل إن الحقيقة الوحيدة الأكثر ترجيحاً هي أن الأزمات المتعلقة بالأمن، والاقتصاد، والسياسة، أو جميعها معاً، سوف تضرب البلاد في القريب العاجل.

إن المشكلة الأكثر إلحاحا لصالح هي المال. فالصادرات النفطية التي تشكل أكثر من 60 في المئة من عائدات الحكومة، يتوقع البنك الدولي نضوبها خلال أقل من ست سنوات. وبالفعل فقد ثبت أن عائدات الحكومة من النفط بدأت بالتراجع إلى النصف منذ العام 2008، وذكر دبلوماسيون غربيون أن المسئولين اليمنيين خفضوا جميع بنود الميزانية، ولكن من غير تلك المتعلقة بالأمن.

ومع ذلك، ففي سبيل بقائه في السلطة يعتمد صالح على دفع أموال المحاباة والإحسان لشراء النخب في البلاد. وهو ليقوم بمثل تلك التصرفات لا يخالجه أي وخز للضمير يمنعه من استنزاف موارد البلد كلياً، وفي دراسة الفساد التي قدمتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية للعام 2006 ، تكشف، من بين أمور أخرى، أن 40 في المئة فقط من عائدات الضرائب تصل إلى خزينة الدولة. وفي الإنفاق على الرعاية الاجتماعية تباغتك الصدمة أيضا: فبحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، فإن اليمن تنفق على الصحة العامة أقل من أية حكومة في الشرق الأوسط، بل حتى إن نصف هذا المبلغ الضئيل يسرق أو بطريقة أخرى يمكن القول إنه يهدر.

بل يتجلى قلة اهتمام الحكومة بشعبها من خلال انعكاس ذلك على بعض الإحصاءات العالمية الحيوية المتعلقة بحياة المواطن. فعلى سبيل المثال تعتبر اليمن هي الأسوأ في معدل سوء التغذية ووفيات الأطفال على مستوى العالم. كما أنه ينعكس أيضا من خلال الأرقام التي تؤكد أن 40% في المئة من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما يعني أنهم غير قادرين على الوفاء بأدنى متطلبات الغذاء للبقاء على قيد الحياة. وقد أصبح نصف أطفال البلاد معاقين بسبب سوء التغذية.

بل وأكثر من أي بلد زرته، فإن الجوع المستوطن في اليمن منحني القدرة على سهولة التمييز بين الميسورين من المعدمين: فمثلاً، رجال صالح الذين هم في الأعلى يميلون إلى أن يكونوا ضخام البنية وكروشهم منتفخة، في حين أن الرجال اليمنيين العاديين الذين التقيت بهم في شوارع صنعاء، الغالبية الساحقة منهم بدوا ليكونوا أقرب إلى طولي أو أقصر بقليل (طولي أنا بالتحديد يساوي 5 أقدام و3 بوصات ).

ونتيجة للظروف القاسية والصعبة التي يمرون بها فإن اليمنيين لجئوا إلى استراتيجية قديمة للبقاء: امتلاك الكثير من الأطفال. الكثير والكثير من الأطفال. وبالفعل، حوالي ثلاثة أرباع سكان البلاد هم دون سن الـ30 طبقاً للأرقام التي جمعت من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومبادرة الشرق الأوسط للشباب، وهو مشروع مشترك بين معهد بروكنغز وكلية دبي الحكومية. (وفي الوقت الذي يعتبر فيه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأعلى معدلاً لمن هم دون سن الـ30 في العالم؛ إلا أن النسبة في اليمن تعتبر الأعلى حتى من المعدلات الإقليمية) وحتى مع ذلك الازدهار الشبابي الذي وصل إلى ذروته في معظم بلدان المنطقة، إلا أنه ظل يتدفق بشكل أكبر من غيره في اليمن. وطبقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإنه من المتوقع أن يتضاعف عدد السكان اليمنيين في غضون الـ20 سنة المقبلة من إجمالي 23 مليون ليصل إلى الضعف، ووفقاً لمكتب الدليل السكاني غير الربحي الذي مقره في الولايات المتحدة، فإن النسبة المئوية للشباب هي الأخرى مرشحة للزيادة.

وفي الوقت الذي سيكون فيه الكثير من العمال قد انضموا إلى متطلبات سوق العمل، ستكون الوظائف نادرة جداً ومن الصعب الحصول عليها. ولأن عائدات اليمن قد ذهبت نحو إثراء النخبة بدلا من العمل على تطوير البلاد، فإن 90 في المائة على الأقل من الأعمال تقتصر على الزراعة والرعي. بيد أنه أيضاً وبسبب أن الحكومة لم تهتم مطلقاً بالأعمال الروتينية ذات المرتبة الدنيا، فإن ذلك أدى بدوره إلى تصاعد وتيرة عمليات الحفر العشوائي لآبار المياه من أجل زراعة القات المخدر كونه الأكثر إرباحاً من غيره، وهو ورقة تمضغ في الفم حتى الثمالة وتسبب نشاطاً إلى حد ما. وكنتيجة لذلك، فمن المتوقع أن تستنفد المياه في اليمن في غضون مدة لا تتجاوز الـ20 سنة القادمة.

ويحذر الخبراء من أن هذا المزيج الفعال من شأنه أن يثير أو يحرض الغضب، على الأقل في حده الأدنى، حول أزمة الغذاء والتوظيف.

ومع ذلك، فإنه ومن خلال نظرته القاصرة جداً، كان الشيء الوحيد الذي واصل صالح القيام به هو الإبقاء على الإنفاق. حتى أنه وبعد أن اندلعت الاحتجاجات في اليمن على مدى الأسابيع القليلة الماضية، جاء رد الرئيس صالح عن طريق تعهده بتخفيض الضرائب، وزيادة الإعانات المالية، وزيادة الرواتب. على أن كل ما سبق من شأنه فقط أن يفاقم الأزمة الاقتصادية للحكومة. وفي وقت قريب تعرض صالح لردود فعل شديدة من الصحافة حينما وزع البنك المركزي للبلاد طبعة مالية حديثة كان الهدف منها تعويم العملة الحكومية.

ولكن مع هذا كله، إلا أن صالح دائماً ما كان يصور شكواه على أن بلاده بحاجة ماسة لمساعدات تتعلق بتعزيز الأجهزة الأمنية، أكثر من الحاجة لتوفير الخدمات العامة. ذلك أن الولايات المتحدة ترى بأن قلقها الجوهري في اليمن يتمثل بتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وليس معدلات وفيات الأطفال الرضع. وزاد من ذلك أنه ومنذ تشكل الاتحاد الاندماجي بين فرعي تنظيم القاعدة اليمني والسعودي مطلع العام 2009، فإن المجموعة، التي اتخذت من اليمن مقراً لها، أثبتت شراسة وعدوانية أكثر من أي فرع للشبكة الإرهابية على مستوى العالم. حيث هاجمت تلك المجموعة الجديدة قوات الأمن اليمنية الخاصة كما جندت المتطوعين للقيام بمحاولات متكررة على أهداف الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وغيرها.

ومع ذلك، فحتى مع تنظيم القاعدة في اليمن، على أية حال، فإن صالح ونظامه تسببا بخلق المشكلة، بدلا من السيطرة عليها.

فخلافا لمعظم الحكومات العربية، رحبت حكومة صالح بعودة مقاتلي القاعدة وغيرهم من الجهاديين العائدين من الحرب الأفغانية ضد السوفييت. وسمح صالح لمقاتلي تنظيم القاعدة من الوصول إلى منازلهم في اليمن، وهو ما جعل المحلل غريغوري جونسن، وهو خبير في شأن تنظيم القاعدة في اليمن، يصف ذلك على أنه عبارة عن "معاهدة ضمنية بعدم الاعتداء" بمعنى أنه: يمكن لأعضاء وزعماء القاعدة البقاء [الإقامة] في اليمن طالما وأنهم لم يهاجموا أهدافاً يمنية، وهي الصفقة التي ثبتت لغاية العقد الماضي. ليس ذلك فحسب، بل إن قوات صالح الأمنية أيضاً جندت أعضاء في الجماعة الإرهابية إلى جانب جهاديين آخرين للقيام بشن حملات عسكرية ضد المنشقين سواء في شمال اليمن أم في جنوبه. و بحسب ما جاء في البرقيات الدبلوماسية الصادرة عن ويكيليكس، فإنه وفي وقت متأخر من العام 2007، أثار الرئيس صالح حفيظة الدبلوماسيين الأمريكيين أثناء حديثه معهم حول آخر محادثة شخصية أجراها مع جمال البدوي، مهندس الهجوم الذي تعرضت له المدمرة الأمريكية كول عام 2000.

وبعد أن دبر مقاتلي القاعدة في اليمن المؤامرة شبه الناجحة التي استهدفت تفجير طائرة ركاب أميركية في ديسمبر 2009، حاولت إدارة باراك أوباما الضغط على صالح من أجل اتخاذ إجراءات صارمة لمنع تكرار مثل تلك الهجمات في المستقبل. وفي حينه شن جيش صالح غارات طفيفة على اثنين من معاقل تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وبفرح رحبت حكومة صالح بمضاعفة المساعدات الأميركية تحت اسم مكافحة تنظيم القاعدة. ومع ذلك إلا أن النظام أخفق في قتل أو اعتقال واحد من زعماء تنظيم القاعدة على مدى العامين الماضيين. بل إن البرقيات الدبلوماسية التي نشرها موقع ويكيليكس تسرد تلك الاحتجاجات الخرقاء للدبلوماسيين الأمريكيين بعد أن اكتشفوا أن صالح على ما يبدو قد انحرف بالمساعدات العسكرية الأمريكية المخصصة لمكافحة تنظيم القاعدة باتجاه دعم حملته المحلية ضد المتمردين في الشمال الذين لم يكن لديهم أي ارتباط مع تلك الجماعة الإرهابية.

وأياً يكن الأمر، فإن موجة القاعدة في اليمن كانت بمثابة الهدية [الهبة الآلهية] بالنسبة لصالح، يجني بواسطتها مليارات الدولارات من المساعدات الدولية، ومن اللافت أن ذلك جاء في الوقت الذي بدأت فيه عائدات النفط اليمنية تنفذ. ولقد أظهرت إدارة الرئيس صالح كل همتها لاستغلال المخاوف الأمنية الأمريكية بشأن تنظيم القاعدة حتى يثبتوا أنهم يستحقون كل ذلك.

بل كان نظامه ذكياً في تضخيم المخاوف الغربية من أن أي تحديات شعبية لنظامه قد توفر المناخ لتنظيم القاعدة.
في مقابلة أجرتها معه قناة السي إن إن في 8 فبراير حول الاحتجاجات في اليمن، سئل رئيس الوزراء علي مجور السؤال التالي: "هل هناك مستوى مواز من القلق في اليمن كما هو هنا من حيث أن المزيد من الاضطراب السياسي هناك، من شأنه أن يتيح مناخاً أوسع لجماعة مثل تنظيم القاعدة للاستفادة أكثر"؟
" بالتأكيد" أجاب رئيس الوزراء، مضيفاً: "كل شيء ممكن. وبصراحة، كل شيء ممكن".

وكان الرئيس صالح قد ضمن بقاءه في السلطة منذ مدة طويلة بإبقائه اليمنيين على حافة الهاوية، وبإبقائه الحلفاء والمنافسين قلقين وبإثارته إعجاب أنصاره بقدرته على تجنب الأخطار. وإنه في الوقت الحالي يفعل الشيء نفسه مع الولايات المتحدة وتنظيم القاعدة.

ومع إنه من الصعب تخيل هذا البلد ذو الأهمية الحيوية البالغة، يمكن أن تثمر فيه تحركات الولايات المتحدة من أجل وضع حد للفوضى الآن، إلا أنه من خلال الدفع به لتشكيل نظام سياسي يعتمد على التمثيل البرلماني لشريحة شعبية واسعة ومتنوعة، وبحيث يكون خاضعاً للمساءلة القانونية والشعبية، هو الأمر الذي من شأنه أن يوفر الاستقرار الحقيقي. وسيكون من الحكمة أن نبدأ التحرك الآن. ومهما تكن إدعاءات البراعة العالية في الرقص على رؤؤس الثعابين، فإن صالح ليس هو الرجل الوحيد القادر على حكم اليمن، بل إنه – في حقيقة الأمر - أبعد بكثير من أن يكون الأنسب. حيث أن البلاد تتمتع بالكثير من القيادات التكنوقراط وزعماء القبائل ورجال الأعمال الذين يمكنهم أن يبرزوا كمرشحين قادرين على المنافسة الديمقراطية.

وحتى يتحقق ذلك، يتوجب على الولايات المتحدة أن تربط مساعداتها باشتراطها على الرئيس صالح بضرورة إحداث المزيد من الانفتاح السياسي الحقيقي، الأمر الذي من شأنه أن يتيح للمشاركة المدنية والسياسية –المحصورة حالياً على الشبكات التي يرعاها ويدعمها الرئيس صالح- من تقديم زعماء يمنيين أكثر قدرة على مواجهة المشاكل في المستقبل.

إن ذلك يجب أن يتم بشكل عاجل لإنقاذ البلاد، ذلك أن الحقيقة الوحيدة المؤكدة حول صالح هي أنه سوف يجلب على اليمن من المشاكل ما هو أكثر من ذلك بكثير.

زر الذهاب إلى الأعلى