[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

عن الثورة والثوار.. عن الأحياء والأموات!

مما لا يفهمه البعض عن الاعتصامات الحالية أنها تؤسس لمعادلة جديدة في المشهد السياسي في اليمن، وليست مقتصرة على مطالبة الرئيس بالتنحي، فهذه الاعتصامات السلمية فاتحة مرحلة جديدة من الوعي السياسي، تطوي مراحل ثقافة العنف و السلاح لفرض وجهة النظر والانتصار من الظلم، وهذه القبائل التي تأتي لساحة الاعتصام تخلت عن الاعتقاد القبلي السائد بالعار الذي يصيب الشخص الأعزل من السلاح، هذه مرحلة يجب أن نجعلها في حدقات عيوننا، في نبضات قلوبنا، إنها تبشر بيمن حضاري، يصحح الصورة المغلوطة عن اليمن وأهل اليمن، التي يختزلها البعض في ذاكرته بالسلاح والخطف والقات والجهل والتخلف، هذه الاعتصامات السلمية ترد الاعتبار لشعب كان وما يزال أس التاريخ وأساس الحضارة.

هذه الاعتصامات تؤسس لمعنى المساءلة الجماهيرية، وترسخ وعياً شعبياً بالمحاسبة، فحتى لو أخفقت السلطة الجديدة التي ستعقب الثورة، وأخلت بواجباتها الدستورية والتزاماتها الوطنية سيخرج الناس للساحات من جديد بكل أدب واحترام لإسقاطها، وبالتالي لا خوف من المستقبل، إذا كان الشعب واعياً بدوره وممسكاً بحقه الدستوري، ليعيد توجيه البوصلة إلى مسارها الصحيح، بعد أن فقد الناس الثقة بالتصويت الانتخابي وما يلفه من تزوير وتغرير وتضليل.

فالأعداد المقدرة لهؤلاء المتظاهرين اختيارياً وتحت خيار واحد تؤكد أنهم بمجموع المقيدين في سجلات الناخبين على اختلاف خياراتهم! وهذه النقطة الحسابية البسيطة ترد على المتحججين بالنتائج الانتخابية التي اكتنفها الترغيب و الترهيب بكل صورهما و أشكالهما.

ولو طلبنا من الإخوة في المؤتمر الشعبي أن يحشدوا الملايين التي يقولون أنها صوتت لهم انتخابياً، فربما سيكلف ذلك خزينة الدولة الكثير، دون أن ننكر امتلاكهم لجماهير حقيقية، مدفوعة بالخوف من المستقبل، وبالرجاء في واقع أفضل!

يفترض أن يكون مكان الاعتصام الجماهيري المطالب بالتغيير هو ميدان التحرير، لكن السلطة دفعت ببعض موظفيها للاستيلاء على المكان مبكراً، بالتزامن مع سقوط نظام الرئيس المصري، ولم يكن أمام معتصمي التغيير غير الذهاب لمكان آخر تحاشياً لأي مواجهات من أي نوع، لأن ثورتهم سلمية ومطلبها واضح و محدد.

عندما صمد المعتصمون في ساحة التغيير بالعاصمة وازداد عددهم، مع إفلاس السلطة في فض اعتصامهم وتفريقهم بالبلطجة والتضليل والترغيب والترهيب، لجأت الأخيرة إلى طريقة جديدة و هي التحدث باسم قاطني الأحياء المحيطة بمكان الاعتصام، وتصوير القضية كخلاف بين فئتين من المواطنين، فئة تمتلك أسلحة وقنابل مسيلة للدموع وغازات سامة (!)، وأخرى تمتلك حق التظاهر السلمي، والسبب المهم في ذلك غير انهاء الاعتصام هو فشل محاولات السلطة إلباس الاعتصام ثوب العنف بإدخال الأسلحة والمتفجرات لساحة الاعتصام، بعد أن شكل المعتصمون لجنة أمنية –مدنية-تعنى بحماية الاعتصام من أي اختراق مسلح والحد من أي مواجهات، مما دفع أموات السلطة من مدنيين وعسكرين لأن يلعبوا دور الأحياء الواقعة في منطقة الاعتصام، بالتوازي مع بيانات رسمية وأخبار غير رسمية تضفي العنف على الاعتصامات والتظاهرات، وهي الحيلة الوحيدة الباقية في "جعبة الحاوي" لتبرير قتل المعتصمين مع ما يمكن أن نسميه إعلان رسمي لحالة الطواريء.

أعمال البلطجة الرسمية يديرها بعض الموتى بعقلية "يا قاتل يا مقتول"، لأن الثورة ستفتح ملفات ربما لم تُفتح من قبل، على غرار ما حدث في مصر وتونس، وبالتالي فلا مفر –في اعتقادهم- من خوض هذه المعركة المصيرية حتى لو كانت مع الشعب المتطلع لواقع جديد، بعد أن فقد الثقة بأي وعود أو مبادرات، يجدها بعيدة عن أي جدية تجاه عبث أولئك الموتى المنتفعين من العهد الحالي، الذين تقاسموا النفوذ المالي والإداري كما لو كان الوطن مزرعة خاصة خلف بيت أحدهم، حتى شعر الناس بأن كرامتهم مجروحة، وأن لا أمل في أي خُطب أو قرارات، وقد شهدوا ذلك عقودا طوقتهم باليأس والإحباط مع مزيد التدهور في الأوضاع المعيشية وقضم الهامش الديمقراطي بأسنان الاستبداد المقنّع، والمتلفع بشعارات الإصلاحات السياسية والتداول السلمي للسطة، فلا أوضاعهم تحسنت ولا ديمقراطيتهم نَمت، فقرروا إسدال الستار على هذا النوع من القلق الذي وصلوا إليه، وهذا الانسداد الذي وصلت إليه بلادهم، ومثلما اجتمعوا اليوم لهدف واحد، وتحت شعار واحد، فهم قادرون على الاجتماع لصياغة المستقبل، ولا مبرر لأي وصاية من أي نوع على شعب بلغ الرشد السياسي بهذه الهبة السلمية التي وحدتهم أكثر من أي وقت مضى، وعلى الأموات أن يدركوا الحياة الجديدة التي سيكتبها الشعب الثاثر لوطنه من ظالميه.

زر الذهاب إلى الأعلى