[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

فلتكن الحكمة يمانية

ارتبط اليمن بصفة أطلقت عليه منذ زمن بعيد هي «السعادة». اليمن السعيد جملة يرددها الناس كلما جاء ذكر اليمن، وهو قد كان كذلك عبر حقب ماضية، ولكن هل يمكن الآن أن تكون هذه الصفة معقولة ومقبولة في ظل الظروف التي يمر بها؟؟

اليمن دولة ضاربة بعراقتها في أعماق التأريخ، معروفة بشعبها الأصيل الصلب القادر على تجاوز المحن، والتواق دائما لحريته واستقلاله وكرامته التي واجه من أجل الحفاظ عليها أهوالا عديدة على مدى تأريخه ليكون اليمن عصيا على الاحتلال والاستعمار.. كان الشعب اليمني من أول الشعوب العربية التي أصرت على خروجها من شرنقة العزلة وفتحت آفاق المستقبل بثورة سبتمبر عام 1962م التي سبقتها وتلتها تضحيات باهظة لكي يبدأ عصره الجديد، بيد أن تلك الثورة لم تحقق حلم الاستقرار إلا بعد فترات من الاهتزازات ليأتي الرئيس علي عبد الله صالح ويبدأ إدارة اليمن في عصرها الجديد فعلا..

لا يمكن لمنصف إلا أن يقدر كثيرا ما أنجزه الرئيس علي صالح خلال أكثر من ثلاثة عقود، إنجازات استراتيجية كبرى تمت في عهده أعادت ترتيب أوراق اليمن، وطوت ملفات معقدة ظلت مفتوحة ومخيفة للذين قبله، بل إنها أحرقت بعضهم حين حاولوا التعامل معها.. استطاع اليمن مع الرئيس صالح أن ينجز وحدة تأريخية بين شطريه رغم الصعوبة التي تخللت تحقيقها، واستطاع اليمن إنهاء خلافات مزمنة مع بعض الجيران بإغلاقه ملف الإشكالات الحدودية ليتفرغ بعد ذلك إلى العمل على بناء الدولة وبدء مسيرة النهضة من الماضي إلى الحاضر واحتياجاته واستحقاقاته، وقد أنجز الكثير في ذلك، لكنه لم يكن محظوظا كثيرا في فترته الأخيرة، وتحديدا خلال العقد الماضي. لقد بدأت مشاكل وإفرازات كثيرة تطفو على السطح وتتراكم بشكل سريع لتخلق وضعا متأزما، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، جعل اليمن يدخل في دوامة جديدة تهدد كل ما تم إنجازه.

نعرف أن اليمن محدود الموارد لكنه حظي بدعم كبير، دوليا وإقليميا، كان بإمكانه تخفيف حدة الوضع وتحسين الأمور لولا أن الإدارة الاقتصادية لم تكن موفقة في استثماره على الوجه الصحيح، وذلك ما جعل الدول المانحة تتردد في استمرار الدعم دون شروط وضوابط.. مجريات الأمور ولدت احتقانات بين القوى السياسية الموجودة على الساحة لتبدأ الخلافات الحادة وارتداد كل طرف إلى حيزه والتترس خلف القضايا الماضية التي يفترض أنها قد انتهت. شمال اليمن بدأ يشكل أزمة جديدة صعبة استنزفت مواجهات قتالية متكررة مع الحوثيين لم يثبت إلى الآن أنها بريئة من الأصابع الخارجة التي ترى في الساحة اليمنية المضطربة فرصة سانحة لتحقيق طموحاتها.

مشاكل الجنوب والحراك الجنوبي بدأت تحضر بصوت مرتفع، ثم بدأت مشاكل التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم القاعدة في إضافة عبء جديد وثقيل على اليمن لتجعله في أصعب ظروفه. ومثل هذه الظروف كان يجب أن تكون دافعا قويا لليمن كي يعيد ترتيب أولوياته، ويبادر إلى قراءة أوراقه بتأن وحكمة وعقل ليحافظ على مكتسباته ويحاول بكل الوسائل عدم الانزلاق في إضافة المزيد من المشاكل إلى رصيده. إن وضعا كهذا كان يحتم تحكيم العقل لاحتواء الخلافات وتقديم بعض التنازلات من أجل الالتقاء حول وحدة الوطن وأمنه واستقراره وتغليب المصلحة الوطنية على مصلحة الحزب والفئة. لكن للأسف الشديد ازدادت حدة التوتر والتجاذبات والمكابرة لتبدأ الأزمة الكبرى التي تطبق على عنق اليمن منذ أسابيع. لقد كانت أزمة متوقعة لأن إرهاصاتها كانت واضحة، والأرضية تتهيأ يوما بعد آخر لولادتها..

قبل أسبوعين تقريبا كنت أسأل الأمير تركي الفيصل عن ما حدث ويحدث في أكثر من بلد عربي من مطالبات بالتغيير، وهل هو مع الرأي الذي يميل إلى أنها بداية الترجمة لمشروع الإدارة الأمريكية الذي أطلقته قبل سنوات قريبة عن خلق شرق أوسط جديد تحت مظلة تقديم الديموقراطية والحرية للشعوب، أم أنه يرى أنها حركات وطنية خالصة فجرتها الأوضاع الداخلية. كان جواب الأمير دبلوماسيا جدا حين مال إلى ضرورة التريث لكي نستطيع فهم ما يحدث، لكنه أكد بشكل لافت أن علينا تركيز اهتمامنا على اليمن بالذات وما يحدث فيه، وكأنه أراد تذكيرنا بالأهمية الخاصة لهذا البلد، ليس لجيرانه الأقربين فحسب ولكن لمحيطه القريب والبعيد، وهي حقيقة لا تحتاج إلى شرح لأن الجميع يعرفها، ويعرف ماذا يعني اضطراب اليمن واهتزاز استقراره..

خلال الأسبوع الماضي دخل اليمن منعطفا في غاية الخطورة حين بدأ الدم يسيل في ساحات الاعتصام. لون الدم ورائحته في الشارع تفتح شهية كل الشوارع له، وحين تبدأ دورة الدم يكاد يكون مستحيلا إيقافها إلا بإنهاء الأسباب التي أسالت أول قطرة..

منذ التعديلات الدستورية السابقة والشارع اليمني يمور بالاعتراض والغضب، وفي ظل أوضاع متأزمة في كل جوانب الحياة، ومع انبثاق شرارة المطالبة بالتغيير في الشارع العربي وجد الشارع اليمني نفسه مهيأ تماما للتحرك، وذلك ما كان. المشكلة الكبرى تكمن في عنصر الثقة الذي تهشم بين الشعب والسلطة ولم يعد ترميمه سهلا. لو كان الرئيس علي صالح بادر منذ البداية إلى تقديم مبادرة «عملية» سريعة ونفذها فورا لتغيير مسار الأمور، لو كان بادر إلى تقديم موعد الانتخابات والإشراف عليها والالتزام بتقديم ضمانات بعدم ترشيحه لخوضها لربما تغير الوضع. لم يكن هناك مبرر لوصف أي إجراء كهذا بأنه انقلاب على الشرعية الدستورية، ولن يعتبره عاقل بأنه استسلام أو تنازل معيب. في النهاية هي إرادة الشعب ومن يحتكم لإرادة الشعب هو الحاكم الوطني العاقل المخلص الذي يحترمه الشعب والتأريخ، والرئيس علي عبد الله صالح يتمتع بقدر كبير من الخبرة والذكاء والدهاء السياسي، وهو ابن اليمن والحاكم الذي حقق منجزات تأريخية ليس من الحصافة أن يهدرها..

لقد كانت الجمعة الماضية مأسوية حقا وما كان يجب أن يحدث ما حدث فيها. لقد كانت احداثها دافعا لبدء انفراط مؤسسة وأعضاء الحكم حول الرئيس.. استقالات لمسؤولين حكوميين وسفراء. استقالات احتجاجية لبعض قيادات الحزب الحاكم، ويوم أمس الأول بدأ تحول مهم حين انضمت بعض وحدات الجيش اليمني إلى المطالبين بالتغيير..

وماذا بعد؟
إنه ترف كبير إذا استعدنا الآن مقولة اليمن السعيد. إن أقصى طموحنا الآن أن نرى تطبيقا لمقولة «الحكمة يمانية».. نرجوك يا فخامة الرئيس ألا تجعل هذه المقولة تخرج من قاموس اليمن بعد أن ارتبطت به عبر كل تأريخه.

[email protected]

(نشر هذا المقال على جزأين في عكاظ)

زر الذهاب إلى الأعلى