[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

عن قناة الجزيرة!!

كان إعلامي قناة الجزيرة أحمد منصور صادقاً حينما قال -ولم يستثنِ –"الحياد في الإعلام أكذوبة"! وهي حقيقة تتجلى في تلك القنوات الكثيرة سيّما الإخبارية منها، والممولة إما من جهات حكومية أو خاصة! إذ يأتي ذلك في عصر التكتلات السياسية والاقتصادية التي يقف المال والإعلام كقوتين أساسيتين لتلك التكتّلات والقوى، في محاولتها توجيه الوعي البشري اليوم، خدمةً لمصالحها، استعماراً جديداً واحتكاراً فكرياً واقتصادياً، أوقع البشرية في ويلات الفقر المتفشّي والحروب المدمرة.

وقناة الجزيرة الإخبارية ليست في منأى عن هذا التوجيه الذي ينفي الحياد والموضوعية فيما تنقل وتنشر كغيرها من القنوات الأخرى، فحامت حولها الشكوك ووضعت علامات الاستفهام عليها منذ وقت مبكر! لكنّ حالة التعاطف مع ما تغطيه وتنقله من واقعنا المؤلم، أشاح بنظرتنا عن التأمل بفكر ووعي في مهنيتها، بعيداً عن شاشةٍ جميلة بألوانها وأناقتها، يطل منها كادرٌ مدرّبٌ ومراسلون يشكلون شبكةً تكاد تغطي أكثر مناطق العالم صداماتٍ وتفجرَ أحداث.

لست هنا في مقام المتجني، بقدر ماهي نظرةٌ عجلى إلى قناةٍ تستحقّ التناول بعمقٍ، بعد أن بدأتْ تتكشّف الحقيقة شيئا فشيئا. وقديما قيل: ما أضمر أحدٌ سراً إلا ظهر على صفحاتِ وجهه وفي فلتات لسانه". ولا أخفي أنني كنت من المتابعين لقناة الجزيرة بشغفٍ واهتمام! لكن ذلك لا يمنع من إعادة النظر في الواقع ومحاولة استبطان الأمور، فليس كلّ ما يلمعُ ذهباً، وغسيلُ الأدمغة –برأيي- لم يعد فعّالاً، بعد فترةٍ طويلةٍ من غياب عقولنا، وتغييبها عما يدور ويدار حولنا!

لن أتحدث عن الجزيرة هنا من حيث أهدافها ودوافع تأسيسها، وظروف ظهورها في الزمان والمكان المناسبين! لكن المشاهد الحصيف المتابع يستطيع أن يميّز ويقارن ويحلل ويقرّب. وسأتوقف هنا عند بعض المؤشرات على سقوط هذه القناة مهنياً وانتهاكاً لميثاق الشرف الصحفي الذي تدّعيه، ومدى تحلّلها عن أخلاقيّات المهنة، على سبيل المثال لا الحصر.

كان قد هالني وغيري ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة عن خبر اعتذار قناة الجزيرة لإسرائيل عن تقريرها في تغطيتها لحفل أقيم للسجين اللبناني السابق في إسرائيل سمير القنطار! إذ ظهر المكتب الإعلامي بالحكومة الإسرائيلية غير راضٍ بالاعتذار وحده، ليقول للجزيرة إنها إذا لم تراجع تقريرها، وتكشف عن التقرير الداخلي لحفل القنطار، فإن إسرائيل ستنظر في التسهيلات والخدمات التي تقدمها لها!. فهل أخطأت القناة حتى كان عليها أن تقدم اعتذاراً لإسرائيل عن تغطيتها لحفل القنطار! وما الخطأ الذي حدث، حتى تعتذر عن تغطية خبر وقع، وذلك برسالة لمدير الشبكة وضاح خنفر يقول فيها" إنّ عناصر البرنامج الذي تناول تغطية الاحتفال بعودة القنطار في 19 من تموز الماضي انتهك المعيار الأخلاقي للمحطة وهو فعلاً انتهاك جدّي ". وهل الجزيرة تفعل ذلك وهي تكشف عن أسرار كثيرة تتصل بالقادة والحكام والحركات والحكومات العربية؟!

وليس من المهم أن نعرف هنا قدر ونوع التسهيلات التي تقدمها إسرائيل للقناة، بقدر ما علينا أن ندرك بأن الجزيرة لم تحقّق معجزةً، أو تخترق تحصيناتٍ في تغطية أحداث غزة، بل كانت كغيرها قد سُمح لها بذلك. والقياس على الأحداث الأخرى كحرب العراق وغيرها التي كانت فيها الطائرات تنطلق من قواعد قرب القناة على حين (غفلةٍ) من مراسليها وعيونها!

وفي أحداث اليمن كان الحياد وشرف المهنة غائبا إلى درجة جعلت الإنسان اليمني يشاهد القناة بتوجس وحذر! إذ تناولت الأحداث التي شهدتها المحافظات الجنوبية بشكل غير موضوعيّ، ضخّم الأحداث على مستوى التقارير وعلى مستوى الصور التي كانت تبثها.

أما في أحداث صعدة فقد كانت القناة تميل نحو إثارة القضية وإظهارها على أنها حربٌ تكشف حالةً من الاضطهاد من قبل الحكومة ضد طائفة دينية في الشمال، محاولةً بذلك إعطاء القضيةِ بعداً إقليمياً ودولياً، وقد نجحت نسبياً. ألم يكن من الأحرى، هو الكشف عن ماهية هذه الجماعة النشاز في مجتمعنا اليمني، والبحث عن النشأة والتطور، كعادة القناة في بقية تقاريرها وهي تنقّب وتسبر أغوار الجماعات والتنظيمات؟! ثم محاولة الكشف عن مطالب هذه الجماعة وأجندتها سواء كانت داخلية أو خارجية؟! وإذا كان الحياد أكذوبة، أليس مما يقتضيه العمل العربي المشترك في مختلف مؤسساته هو تكريس الإعلام لما يعزز التضامن والتوافق والإصلاح؟ وضرورة نشر الحوار ليؤسس لمرحلة قادمة بعد مرحلة نعيش فيها على هامش التاريخ بسبب الضعف الذي نال من الأمة والتدخلات الخارجية بالشؤون العربية والتي باتت كوابيس مؤرقة ومهددة للوجود العربي.

تتبع قناة الجزيرة سياسةً خاصة في تناول الخبر والتعاطي مع الأحداث، تهدف إلى إثارة الفتن وزرع بذور الشقاق، وبطريقةٍ لم تعد تخفى، سواءٌ على مستوى كتابة التقارير وإعداد البرامج، واستضافة الخبراء والمحللين، أو على مستوى الصور التي تشكل جزءاً مهما في التأثير على وعي المشاهد وتصوّره للواقع من حوله. ولا وجود لما يبرر ذلك كما يحاول خنفر في قوله بأنها "محاولةٌ لكسر جدار الصمت". فتسارعُ الأحداث وتطورها، وسياسة القناة التي تودّ مواكبة هذه التطورات، أوقعها في سقطاتٍ وخروقاتٍ كثيرة، لعل آخرها ما حدث مؤخراً حين نشرت القناة شريط فيديو مسجل لممارسة تعذيب داخل إحدى السجون في بلد عربي، على أنه في إحدى السجون اليمنية، وفي وقت تمر فيه البلاد بعاصفة! وهو ما لا يدع مجالا للشك في سوء توجهها ومقصدها ضد اليمن، بالعمل على إثارة الفتنة واستفزاز المشاعر، لتكشف بذلك عن سقوط أخلاقي ومهني مروّع للقناة لا يغتفر!

لن أقول إن الجزيرة تكرّس أجندةً خارجيةً في المنطقة! ربما يكون هذا الكلام صادماً أو غير مقبول سيّما عند أولئك المعجبين، لكن الحقائق مرّة، ولم يعد بإمكاننا السكوت أو التعامي وعلى طريقة (الرضى بالقليل) و(أحسن السيئ)، وهنا أتساءل: لمصلحة من تنشر الجزيرة وثائق سرية وتقارير تمسّ العمق في تركيبة الوطن العربي السياسية والفكرية والثقافية؟ كان آخرها ربما وثائق ويكلكس التي بدا اهتمام الجزيرة بها بشكل كبير في كل نشرة وموجز، وهي الوثائق التي كانت الصحيفة الأولى الأمريكية نيويورك تايمز أول من نشرها؛ لتضرب أمريكا بها ما تبقى من الثقة بين الحاكم والمحكوم، والعربي والعربي بشكل عام، فتتركنا في حيرة من أمرنا بين مشدوهٍ ومصدومٍ ومكذّبٍ ومصدّق! ولمصلحة من تلك التقارير التي هي أشبه بخطب عصماء تهدف إلى إثارة الشفقة النفسية حينا، والفوضى العقلية حيناً آخر، دون نقل الحدث بتجرد وحرية وموضوعية؟

أعتقد أن من أساسيات العمل الإعلامي، هو التجرّد عن الأدلجة من أي نوع، سياسيةً كانت أو طائفيةً أو حزبيةً والتحرر من التبعية للمموّل، حتى يكتسب الثقة والمصداقية! فإن لم يكن كذلك فليكن انحيازه نحو ما يوثق أواصر القرب والتقارب بين السياسات والمفاهيم العربية المختلفة! لا أن يكون على النقيض تماما! والمتابع للقناة لا يعدم تلك النزعة الاستخباراتية في البرامج والتقارير المختلفة، ولربما صدمنا حينما نعلم أن لها علاقاتها القوية بعناصر من السي آي إيه، وبحاييم صبّان وغيره من اليهود الإسرائيليين؟

بقي أن أشير إلى أن مقرّ القناة في دولة لا يوجد فيها حرية صحافة ولا قانون ونقابة للصحافيين! فعلى أية أرضية وجدت هذه القناة؟! وأي بساط من الريح حملها إلى هذه الجزيرة؟ لذا نجد القناة لا تتناول قطر في التقارير والأخبار وهو ما يطعن وبشدة في مهنيتها وحريتها وموضوعيتها التي تدّعيها!. حتى وصل الأمر إلى إخفاء أو تجنب خبر زيارة الرسام الدنمركي صاحب الرسوم المسيئة إلى الدوحة؟! يقول وضاح خنفر مدير الشبكة إن الحكومة القطرية تدفع من طاقة التشغيل 80%، في حين أن 20% من الإعلانات. ومعلومٌ أنها قرب أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة وربما في العالم، السيلية! وممولة قطرياً، وعلى طريقة من يدفع للزمار يرقص.

لقد بات من المؤكد أن الجزيرة تخدم أجندة خارجية، وتتستر بنقل واقعنا المؤلم كما هو حال الممول، الذي يدعي القومية والممانعة، وهو واقع في شر فتح علاقات مع إسرائيل! صحيح أنها تنقل الحدث من أرض الحدث وتمتلك كادراً هو الأقوى ربما في العالم! لكنها ليست مهنية في تقاريريها وبرامجها واستضافتها للخبراء والمحللين! قد يقال إن في الأمر تهويل أو مبالغة لكن الحقيقة أن الجزيرة مارست وتمارس دوراً خطيراً في تشظّي العقل العربي وعملت في عمق البنية الفكرية والثقافية سلباً وليس إيجاباً!

ولا يفهم أحدٌ أني أبرّىء تلك الأخرى ذات التوجّه الغربي المكشوف وإن حاولت التمظهر بالحياد! كما لا يفهم أحدٌ أني أروّج لقنواتٍ حكوميةٍ على امتداد الوطن العربي، ظاهرها فيه الصدق وباطنها من قبله الزيف والخداع! إن ما يجب علينا أن نعيه، هو أننا أصبحنا في مرحلةٍ لم يعد من المقبول ولا المعقول، الوقوع في مطبّات الإعجاب والبهرجة، إلى هواء الفراغ العقليّ والفكريّ والوجوديّ، والتغييب عن واقعٍ مؤلمٍ ومزرٍ، نحن نعيشه!

- كاتب وشاعر يمني، يحضر دراسات عليا في جامعة الملك سعود بالرياض

زر الذهاب إلى الأعلى