[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

عن الطريق الآمن للثورة

يحشد الرئيس "صالح" كل امكانياته العسكرية والشعبية، من أجل تقوية موقفه التفاوضي، وهو ما افهمه من نقله للمعسكرات من المحافظات إلى صنعاء، وكذلك حشده الجماهيري ليوم الجمعة الماضية، التي اسماها بجمعة "التسامح" في مواجهة مع جمعة "الرحيل". ولعلّ التسمية قابلة للقراءة بحسب اختلاف القارئ وتوجهاته، فأنا أفهمها على أنها رغبة في طلب التسامح من الشعب، ورغبة منه في أن يتقبله الآخرون مواطنا ويتقبلوا حزبه ككيان سياسي لما بعد تنحيه عن الرئاسة.

شخصيا قناعتي تختلف عن الشارع الثوري الراغب بالقصاص لدماء مذبحة الجمعة قبل الماضية. أعرف إن القصاص حياة، لكن العفو أيضا حياة، فإذا لم يكن القتل نفيا للقتل كما قالت العرب، فما المنفعة من القصاص. إذا كان رعب القصاص سيودي باليمن إلى مجزرة للآلاف فإن حقن الدماء بالعفو، هو أهم من وجهة نظري من التعامل معه من موقع الثأر والحقد المبرر أخلاقيا، لكنه في سياق نشوء الدولة المدنية لن يكون سوى تكريس لعقلية الانقلاب. فبقاء "صالح "في اليمن، كمواطن، بل وبقاء حزب المؤتمر الشعبي العام، بعد انتزاع مخالب السلطة منه، هو من وجهة نظري مؤشر على مدنية الدولة التي نبتغيها، فالمؤتمر الشعبي مثله مثل بقية الأحزاب والقوى التي شاركته الحكم في المرحلة السابقة، ومن غير المنطقي التعامل معه بطريقة مختلفة عن الأحزاب والقوى التي شكلت منظومة حكمه! فحين يصير المؤتمر الشعبي حزبا لا يستقوي برأس الدولة، يصبح من الطبيعي التنافس معه على أرضية المواطنة المتساوية..

شخصيا أجد أن العفو عن" صالح "وتأمين بقائه في اليمن مسألة أخلاقية، وتندرج ضمن ضمانات الدولة المدنية..

أستطيع بدافع الثأر والحقد والقصاص، أن أتعامل مع "صالح" بعقلية المطالب بمحاكمته، أو نفيه، فمنذ صعود "صالح"عام 1978م إلى سدة الحكم، عبر الدبابة والسعودية ثم قوى المشيخ والإخوان، وأنا أشعر بالرعب من نظامه، يومها سمعت من الإذاعة خبر حكمه بالإعدام على الدفعة الأولى ثم الثانية من الناصريين، وكادت الدفعة الثالثة أن تلحق بهم، وبينهم أقرباء لي، يومها كانت الوالدة في حالة إغماء وانهيار بسبب ورود اسم أخيها ضمن الدفعة الثالثة، وبعده بيوم شاهدت الوالد وهو يحرق مئات الكتب، إضافة إلى مكتبة للأغاني والأناشيد لمشاهير الغناء العربي، يومها استطعت إخفاء كمية من الكتب حتى لا تحرق مع البقية في تنور الوالدة وتنور الجيران..

هذا هو نظام "صالح" الذي بدأ حكمه باقتياد الناصريين إلى سجون "الأمن الوطني"ومن بينهم أخوالي...هذا هو نظام "صالح" الذي ما إن انتهيت عام 1988م من التدريس الإلزامي في مدرسة "ناصر" حلقان قدَس بتعز حتى تم اقتيادي، في شهر رمضان، من نقطة عسكرية في "نجد قسيم" إلى سجن الأمن الوطني وإلقائي في "فرنه"، وهوسجن كبير تحت الأرض، يقع في حارة المستشفى الجمهوري بتعز، وقتها كان عمري عشرين سنة.

ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى كانت انتفاضة 10،9،ديسمبر 1992م، والتي خرجت في تعز ثم ذمار وصنعاء والحديدة مطالبة بسقوط النظام، وبدلا من أن يسقط النظام تم اقتيادي إلى سجن "الأمن السياسي" ثم اقتياد بقية زملائي.. وما بين قبو "فرن" "الأمن الوطني" وزنزانة "الأمن السياسي" فارقٌ يتمثل في الإعدامات الوهمية التي كانت تعمل لي كل يوم، والنوم على أرضية البلاط، ودفعهم لأحد المتعاونين معهم كي يحضر لي من نافذة الزنزانة بقطعة زجاج حتى انتحر بها، إلى تعذيب أشخاص أعتقد أنه تعذيب وهمي، وإن كنت اتصور التعذيب وقتها حقيقة وليس وهما..

ولعلّ العقيد، وقتها، "علي السعيدي" والذي كان نائبا للأمن الوطني ثم السياسي، يحتفظ بالكثير من التفاصيل التي كانت تنفذ بإدارة منه، خاصة وأنه قد انخرط في صفوف ميدان "الحرية" وأعلن هو ومجموعة من الضباط الذين تم تأهيلهم ليصبحوا دكاترة جامعات، بعد أن كلت أيديهم من التعذيب!- انتماءهم للثورة وتطهرهم من فساد النظام!!

ومن سجون "صالح" المغلقة، إلى سجنه الكبير بحجم وطن اسمه اليمن، ازداد اتساعا بعد الوحدة، هذا السجن الذي يشعرك بأن حدقة الحاكم ترصدك تحت مجهره الأقرب إليك من حبل الوريد! سجن يشعرك بأنك مراقب باستمرار وعرض للضرب والتصفية. نظام يجعلك منقوص المواطنة، إن لم تقل مسلوب المواطنة، وهو نظام كل أطراف التحالف المشترك ضليعون فيه، فأطراف التحالف لم تكن تابعة بل شريكة، ولعل ّالأحداث اليوم اثبتت أن "صالح" كان الطرف الأضعف في هذا التحالف، بمجرد أن تكتلوا عليه، معتلين لتراكمات شعبية انتهت بالانفجار ثم الثورة..

رغم ذلك؛ ووعيا به؛ لا استطيع أن اشاهد المستقبل بعين الثأر والمقصلة.. إن حضور "النفي "والمقصلة "لايعني سوى سيطرة العقلية الانقلابية، بل ومؤشر على أن القادم لم يكن سوى استمرار لـ"خمر الأولى والثانية" لتكون خمر الثالثة، تجديدا للاستبداد وتشبيبا له..

من مصلحة القوى الحداثية المدنية أن يبقى صالح مواطنا، بل وناشطا سياسيا، بعد تنحيه عن الرئاسة، ومن مصلحتها بقاء المؤتمر الشعبي العام، وتحوله إلى حزب سياسي، على أرضية التنافس العادل، بقدراته وليس بمقدرات الدولة.

تتشكل اليوم تكتلات ذات برامج متفقة في الأهداف على الأغلب، وهذا مؤشر على أن الوعي بالقادم قد بدأ يترجم إلى آليات تنظيمية وفكرية، لكن على هذه التكتلات أن تؤمن بأن التعدد هو طريقها وغايتها، كونه سمة الاختلاف والتنافس، وليس سمة للتشرذم والانقسام والتزاحم، كلما تعددت الرؤى كانت فرصة المدنية أقوى..

تضج الميادين بلغة التخوين، لأن ثقافة الدولة البوليسية القبلية الدينية قد نالت من طريقة تفكيرهم بفعل التعايش والتطبع خلال العقود الماضية، ولن يستطيعوا التحرر منها ما لم ينتموا لثقافة دستورية مدنية.. فالحالة الثورية، بحكم التناقض بينها وبين النظام الذي تعمل على دحره، تجعلها بدون وعي وبوعي تستعير منه آليات ورؤى الدفع نحو السقوط، فإذاكان الحاكم يحشد ضمن المتوفر لديه من وسائل، سواء أكانت بالمال، أو العصبية، أو ألفة الضحية للجلاد بل والتباس العاطفة نحوه، مما يجعله يخشى أن يصبح بدون جلاد، إلاّ أنّ ميادين الثورة لا تخلو هي ايضا من الإكراه، إما بإدانة الفئة الصامتة، أو بإدارة الناس بآلية القطيع، فصوت الثورة ينبغي أن يكون صوتا واحدا، وهذا الصوت يعبر عنه حكماء الأحزاب والوجاهات القبيلية والعسكرية.

منذ مقالي الأول الذي نشرته في صحيفة الشارع، قبل أكثر من ثلاثة أسابيع، بعنوان "ما الذي يحدث...قراءة في المشهد اليمني"، إلى مقالي المنشور في صحيفة "حديث المدينة" بعنوان "أحلامنا بين الثورة وتداول الاستبداد" وقد حذف مصحح الصحيفة كلمة "أحلامنا"من العنوان، وتحولت فيه عبارة "تسليع الثقافة والمثقفين" إلى "تسليح الثقافة والمثقفين" رغم إرسالي المقال مطبوعا عبر البريد الالكتروني!؛ كان موقفي ينطلق من رغبتي أن اتحرر من موقف الثأر والحقد، وهو ليس موقفا طارئا ففي حوار قبل مايقارب سبعة أشهر، كنت قد تحدثت عن تجربة السجن ضمن قصة صحفية للكاتبة "إلهام الوجيه" لم تنشره حتى الآن، كذلك النأي بنفسي من ثقافة القطيع، وهو موقف يعتبر مغامرة في زمن يفترض أن أهتبله، لأقتص من جلادي، وكذلك كي أتناغم مع صوت الجماعة، فالشذوذ عن الجماعة شذوذ للجحيم، والآخر المختلف عن الثنائية المتقابلة هو الجحيم. لهذا تتآكل القائمة السوداء التي كان "صالح" حريصا على الحكم من خلالها، إلى قائمة سوداء تحرص بعض قوى الثأر الملتبسة والمتلبسة بالثورة على التلويح بها!

زر الذهاب إلى الأعلى