[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

كيف تنتقل الثورة من الهدم إلى البناء؟

الثورة فكرة تقوم بالضرورة على الهدم والتفكيك. أسباب قيام الثورة أى ثورة هى رغبة الجماهير وإصرارها على إحداث تغيير جذرى في المجتمع وبشكل فورى لا تدريجى.

قد يكون هذا التغيير في نظام الحكم، أو في توزيع الثروات، أو في النظام الاقتصادى، أو في قيم المجتمع. المهم أن الثورة لا تكون مستحقة لهذا الوصف إذا قامت بتغييرات تدريجية أو غير حاسمة، وإنما تكون عندئذ حركة إصلاحية.

لهذا فإن الثورات تعمل على تفكيك وهدم ما كان موجودا من قبل، على أن يكون ذلك بسرعة، وإذا لم تنجح في تحقيق ذلك فإنها تعرض نفسها لخطر أن تنفض عنها الجماهير التى ترغب في تحقيق تلك النتائج الملموسة والسريعة، ويصبح أيضا من الأسهل على خصومها أن يعيدوا ترتيب وتنظيم صفوفهم من أجل وقفها أو دحرها من خلال ما يعرف بالثورة المضادة.

والحالة المصرية لم تخرج عن ذلك. فثورة يناير قامت للمطالبة بتغيير نظام الحكم وبالديمقراطية السياسية وبمحاربة الفساد، وكان هذا معنى أن «الشعب يريد إسقاط النظام». وتحقيق هذا الهدف كان يستلزم هدم وتفكيك ما كان قائما: تنحى رئيس الجمهورية وحل البرلمان وتعطيل الدستور وإقالة الحكومة وإلغاء جهاز مباحث أمن الدولة وحل الحزب الوطنى وتغيير المحافظين ورؤساء المؤسسات الإعلامية. وخلال ذلك فإن كل محاولة لوقف استمرار الثورة والاكتفاء بما تحقق من أهدافها باءت بالفشل، لأن الجماهير اتجهت فورا إلى ميدان التحرير وغيره من الميادين حرصا على استكمال عملية الهدم، لأن تفكيك ما كان قائما هو هدف الثورة وهو في الوقت ذاته وقودها.

ولكن في كل الثورات، خاصة الناجح منها، تأتى اللحظة التى ينبغى فيها أن تبدأ عملية البناء. بناء الاقتصاد، وبناء الثقة، وبناء المؤسسات التى تحقق مطالب الناس في المستقبل بعد أن تحققت آمالهم في تحطيم ما كان قائما وما كانوا يبغضونه. هذه لحظة خطيرة، وسوء تقديرها يمكن أن تكون له عواقب وخيمة. فالتسرع في إيقاف عملية الهدم يهدد الثورة وما قدمته من تضحيات، إذ تعود الأمور إلى نصابها والمياه إلى مجاريها ولا يتبقى سوى تغيير شكلى في الأشخاص وفى المظاهر السطحية، ولكن يبقى المجتمع بنفس الظلم أو التسلط أو الطبقية أو الفساد الذى كان عليه من قبل.

لذلك فمن المفهوم أن يكون هناك توجس من فكرة الاستقرار وإعادة عجلة الاقتصاد للدوران خشية أن تكون دعوة حق يراد بها باطل، أى محاولة لوقف اندفاع الثورة واستكمال تحقيقها لعملية الهدم والتفكيك. ولكن على الجانب الآخر فإن الاستمرار في عملية التفكيك وحدها يحمل مخاطر لا يستهان بها.

فمع مرور الوقت يتحول التوقف المؤقت للاقتصاد إلى تباطؤ وركود حقيقيين، واضطراب الأمن إلى انفلات وفوضى عارمة، والخوف من المستقبل إلى فقدان للثقة في المؤسسات الوطنية. والثورات تقوم في النهاية لتحسين أحوال الناس بكل ما فيها من حريات سياسية ومتطلبات معيشية وليس لزيادة صعوبتها، والتأخير في إحداث هذا التحسين يعرض شعبية الثورة للخطر ويهدد بأن تنقلب الجماهير عليها وتعتبرها المشكلة لا الحل.

والتاريخ الإنسانى عرف هذه الظاهرة كثيرا، حينما يترحم الناس على الأيام التى سبقت الثورة ويتمنون لو أنها لم تحدث أصلا، ليس لأن أهدافها لم تكن نبيلة وإنما لأنها فشلت في تحقيق مطالبهم المعيشية وعجزت عن التحول من الهدم إلى البناء في اللحظة المناسبة.

ونحن اليوم في مصر أمام اللحظة الفارقة التى يتحدد فيها مصير البلاد، إما بالمضى في عملية التفكيك دون رؤية واضحة للمستقبل بما يعرض المكاسب السياسية والخدمات الاجتماعية والاقتصاد والتنمية والأمان للخطر، وإما التوصل إلى التوازن الصعب والضرورى لبدء عملية البناء فورا دون التضحية بما تحقق من مكاسب. كيف يمكن إذن إقامة التوازن بين استمرار الثورة في هدم ما كان فاسدا وبين ضرورة بدء عملية البناء؟ الإجابة ليست من عندى، ولكن حققتها تجارب ثورية ناجحة في أنحاء العالم في أمريكا اللاتينية ثم جنوب إفريقيا ثم شرق أوروبا. ما حققته هذه الثورات كان إيجاد مسارين في مختلف المجالات:

أحدهما للاستمرار في تحقيق مطالب ومكاسب الثورة، والثانى لتحقيق الاستقرار ولإعادة بناء الدولة والثقة في اقتصادها ومؤسساتها.

هذا أمر قد يكون صعبا ولكنه ليس مستحيلا. والمقصود بمسارين هو إيجاد الحالة النفسية التى تسمح بالقيام بالأمرين معا دون تعارض بينهما، وكذلك إيجاد المؤسسات التى يتولى بعضها استكمال عملية الهدم، بينما يعمل الآخر على البناء.

وفى الحالة المصرية فإن هناك عدة أمور يمكن أن تنطبق
عليها فكرة المسارين. في مجال الخدمات الأساسية يجب فصل تطهير مؤسسات التعليم والصحة وغيرها عن ضرورة عودة هذه المؤسسات لتقديم خدماتها للمواطنين وبكامل طاقتها دون أن تكون مكبلة باستمرار حالة الذعر التى انتابتها جميعا.

وفى مجال مكافحة الفساد يجب الفصل بين استمرار ملاحقة الفساد القديم من خلال مؤسسات الدولة القانونية، وبين وضع نظام جديد للوقاية من الفساد في المستقبل والعمل على إعادة الثقة للموظفين الحكوميين حتى يخرج الجهاز الإدارى للدولة من حالة الشلل التى أصابته. وفى مجال الاقتصاد يجب فصل ما يجرى التحقيق بشأنه من حالات محددة للتربح والاستغلال عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية باقى الشركات والمشروعات والمساهمين فيها والتأكيد على أن نشاطهم المشروع محل ترحيب وتشجيع من الدولة وأن استثماراتهم آمنة وليست موضع الريبة أو الملاحقة.

وفى مجال الأمن يجب التفرقة بين استمرار هدم وسائل ومؤسسات القمع والاستبداد وبين إعادة هيبة الدولة وانتظام العدالة وحماية المحاكم والقضاة من البلطجة ومن التعدى عليهم وعلى سيادة القانون الذى يمثلونه.

بعض الدول (وآخرها تونس التى تجرب هذا النموذج) ذهبت إلى حد إنشاء لجان ومؤسسات مؤقتة هدفها الوحيد التفرغ لاستكمال عملية الهدم والتفكيك، حتى تتفرغ الحكومة لشأنها الرئيسى، وهو البناء والتنمية وتوفير الأمان.

ومسئولية بدء مسار البناء ليست مسئولية الحكومة وحدها ولا المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فهذا دورهما الطبيعى. هذه المسئولية تقع قبل ذلك على وسائل الإعلام، وصناع الرأى، والأحزاب السياسية كلها. فالمطلوب هو إيجاد الحالة النفسية في البلد والقناعة العامة التى تسعى للبناء وتنظر للمستقبل بما يصنع البيئة المواتية لعمل المؤسسات الوطنية ولمواجهة التحديات المقبلة واستغلال الفرص.

هذا دور يجب أن تتشارك فيه كل قوى المجتمع، لأن إحداث هذا التغيير لا يأتى بقانون أو قرار أو بيان رسمى، وإنما يكون من خلال إرساء القناعة لدى الناس بأن الوقت قد حان لبدء عملية البناء على التوازى مع تفكيك النظام السابق. أما الاكتفاء بمسار الهدم فلن يترك في نهايته سوى أنقاض وفرص ضائعة.

زر الذهاب إلى الأعلى