[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

ألا يتعظ طغاة عصرنا بمواعظ أمثالهم

أوصى طاغية مقدونيا قديماً نظراءه طغاة العالم بثلاثٍ .. فهل يا ترى سيتعظ بها طغاة عصرنا المتهالكين على الكراسي ، الذين يأبون الانصياع لنداءات العلماء والعقلاء من أبناء شعبهم ، وهتافات الشباب في الميادين الذين بحت أصواتهم وهم يهتفون : ارحل !؟!

يظن بعض المفسرين ومنهم الألوسي غفر الله أن ذا القرنين المذكور في سورة الكهف : (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً * .. ) [الكهف83 98] هو : لاسكندر المقدوني الإغريقي تلميذ أرسطا طاليس ، وذلك كونه كانت له فتوحات كثيرة في المشرق والمغرب ، ولأن التاريخ المدون يعرف ملكاً اسمه لاسكندر ذي القرنين ، لكن ابن كثيرغفر الله له وغيره ينفي أن يكون ذو القرنين المذكور في سورة الكهف كما في النص أعلاه هو هذا ، فالنص القرآني لا يتحدث عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه ، وهذه كما يذكر صاحب الظلال غفر الله له هي السمة المطردة في القصص القرآني ، فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود ، إنما المقصود هو العبرة المستفادة من القصة ، وهو ما يتحقق بدون الحاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان ..

فالمقطوع به أن ذا القرنين المذكور في سورة الكهف (الآية : 38 ) ليس لاسكندر المقدوني ، إذ ذو قرني سورة الكهف : عبدٌ صالح ، ودستور حكمه دستور الحكم الصالح الذي قوامه الكرامة والتيسير والجزاء الحسن لمن أحسن ، أما المعتدي الظالم الفاسد المفسد فله العذاب والنكال والإيذاء ، وهذا ما يحفز الناس على الإنتاج والصلاح ، لكن حين يضطرب هذا الميزان كما هو الحال عند لاسكندر المقدوني الذي ظنَّ أنه مخلدٌ في الأرض يحكم فيطاع ويشير بأصبعه فتتحرك البشرية كأنها أحجارٌ على رقعة الشطرنج ، ظن أن رجاله وجنده مانعوه من الله فطغى وتجبر ، ومثله طغاة عصرنا قهروا شعوبهم ، وعاثوا في الأرض فسادا قد صم بريق الملك آذانهم وأعمى أبصارهم ، يُقرَِّبُ الحاكم منهم أهله والمعتدين الفاسدين المفسدين من انتهازي مثقفي عصره فيقربهم ويغدق عليهم الأموال والمناصب والشارات والألقاب والرتب ، ويُبعد الصالحون المصلحون فيصبحوا منبوذين محاربين ، وتكون السلطة سوط عذابٍ وأداة إفساد ، ونظام الجماعة إلى فوضى ، وما دروا أن لكل ظالم نهاية ، يومها لا تغن عنهم الزبانية من مرتزقة المثقفين حولهم فيهتف الواحد منهم : (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هلك عني سلطانيه ) [الحاقة28 29] فالدنيا لا تدين لأحد ولو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم .

هذا الوضع البائس هو ما كان عليه اسكندر مقدونيا الإغريقي تلميذ أرسطا طاليس ، ومثله تماماً هم طغاة عصرنا سواءً بسواء ، حولوا أوطانهم إلى دولٍ تُديرها الأجهزة الأمنية القمعية يعبث فيها ضباطها فساداً ، يمتهنون المواطنين ويُذلونهم ويهينونهم ويجلدون أبشارهم ..

هذا الطاغية المقدوني لاسكندر الأكبر عندما أدركته الوفاة كتب وصيته وهو على فراش الموت ، فأوصى بثلاث وصايا هي :
1) الوصية الأولى : أن لا يحمل نعشه عند دفنه إلاّ أطباءه ، لا أحد غيرهم .
2) الوصية الثانية : أن تنثر في طريقه إلى المقبرة قطع الذهب والأحجار الكريمة التي جمعها طيلة حياته .
3) الوصية الثالثة والأخيرة : إذا وضع في نعشه طلب منهم إخراج يده اليمنى من الكفن وإبساطها خارج النعش لتكون بارزة للعيان .

وحين فرغ من وصيته ، وقف الوصي ، القائد العام نائب الملك وولي العهد ، وقبل يد لاسكندر المقدوني الأكبر ذي القرنين ، وضمها إلى صدره ، ثم قال مستغرباً هذه الوصايا النشاز : ستكون وصاياك الثلاث أمانة عندي للتنفيذ دون إخلال بواحدة منها ، فهلا أخبرتني يا جلالة الإمبراطور المقدوني الأعظم عن مغزى كل واحدة من هذه الوصايا على حده ؟!!!

أخذ جلالة الإمبراطور المقدوني الأعظم نفساً عميقاً وأجاب ، أريدُ أن أعطي طغاة العالم والمستبدين من أمثالي درساً لم أفقهه أنا إلى الآن ؟! :

فأما الوصية الأولى : فأردتُ أن يعرف طغاة العالم والمستبدون أنَّ الموت إذا حضر لم ينفع في رده الأطباء المهرة ، أولئك الذين نَهرعُ إليهم كلما أصابنا مكروه ، فالصحة والعافية تاجٌ على رؤوس الأصحاء ، لكنَّ العمر لا يمنحه أحدٌ من البشر ؟!

أما الوصية الثانية : أن يعلم طغاة العالم والمستبدون أن الوقت الذي نقضيه في جمع الأموال ليس إلاّ هباءً منثورا ، ولن نأخذ منه معنا عند الموت حتى فتات الذهب ودقائق الأحجار الكريمة .

أما الوصية الثالثة : فليعلم طغاة العالم والمستبدون أننا قدمنا إلى هذه الدنيا لا نملك شيئا حتى الثوب الذي نتزين به ، وأيدينا فارغة لكنها نظيفة ، وسنخرج من هذه الدنيا كذلك ، لكن قد تكون أيدينا ملوثة : بدماء الأبرياء الذين ذبحناهم ، وأموال الشعوب التي نهبناها ، وأطنان الذنوب التي حصدناها ..

فيا ويحنا ياويلنا ليتنا لم تلدنا أمهاتنا ، لقد رقصنا على الأشلاء أو على رؤوس الثعابين ، وسكرنا حتى الثمالة من زبيبة ، وتركنا كل ذلك وراء ظهورنا .. فلو أنها دامت لغيرنا ما وصلت إلينا أصلا .. أنها وصيتي لكل المتجبرين من طغاة العالم والمستبدين عبر التاريخ فهل من معتبر ؟!

زر الذهاب إلى الأعلى