[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

إعادة تدوير النظام باستخدام الثورة درعا بشريا

بالتأكيد الفارق كبير بين شعار اسقاط النظام واسقاط الرئيس، فالرئيس فرد جاء ضمن سياق تاريخي واجتماعي وثقافي موجود داخل الدولة التي يحكمها واسقاط الرئيس يعني اسقاط فرد وليس اسقاط السياق الذي افرزه وباستمرار وجوده سوف يفرز غيره. الرئيس علي صالح خرج من سياق متخلف لنظام الامامة في بيئة فقيرة لم يكن نصيبه منها اكثر من دراسة في المعلامة ليذهب بعدها مع اخوانه السبعة –من بينهم افتراضاً علي محسن وإن كان اخ لأخوانه الغير اشقاء- إلى الجيش هرباً من شظف الحياة، ليكون السلاح هو اول مخرج لهم من دائرة القرية الصغيرة ورعي الاغنام ويكون هذا السلاح- وياللمفارقة- أول ملامح الحياة الحديثة التي يحتكون بها. ماذا يعني هذا كله؟ سياق متخلف، فقر، بيئة منغلقة والاهم من هذا كله ولاء مطلق للسلاح الذي اخرجهم من القرية ثم صار هو أداة الصعود السياسي وضمان القوة والنفوذ بسبب سياقات الصراعات السياسية لدولة لم تهدأ واستخدام العنف في كل مرة كمخرج للمأزق السياسي الذي تصله.

اذن جاء الرئيس ضمن سياقه، نظام استبدادي يعطي للفرد تلك القوة المطلقة وقوى تتنازع وترى للجيش والقبيلة بسلاحها هما المحركات الحقيقية للحدث السياسي في اليمن بعد سقوط الإمامة ودخول اليمن في سياق جديد بعد الثورة. ظلت الثورة تعيش سياقها المختل في حالة صراع حقيقي بين قوى تقليدية ترى سقوط الإمامة منجزاً كافياً مع استمرار نفس السياسات التي تجعل من العصبويات القبلية اولوية عليا وشكلت عائقاً في بناء دولة حديثة.

جاءت الوحدة وخلقت سياقات مختلفة لكن ظلت تيارات بعينها على عنادها في سياسة الحفاظ على الدولة بمنطقها القبلي العسكري الموغل في عنفه وفي هذا السياق دخلت الاحزاب وقبلها فئة التكنوقراط والمثقفين الحياة السياسية اليمنية بمنطق فن الممكن والذي يعني عدم الاخلال بالسياق ومحاولة تعديله من الداخل، ربما شيء مشابه لما حدث في ثورة 48 حين اضطلع البعض بمهمة التغير من داخل بنية الامامة، واثبتت التجربة القاطعة ان الاصلاح في بنية نظام مختل إلى هذا الحد وخرج عن متطلبات الزمن ليس بالأمر الممكن لتأتي تجربة ثورة 1962 لهدم السياق بأكمله وبناء سياق جديد بمنظومة قيم جديدة ومختلفة عن مفاهيم الإمامة والشرعية الدينية.

الثورة تختلف عن السياسة في كونها خروجا من السياق لخلق سياق جديد وليست فن الممكن بل خلق الممكن، فهي عملية خلاقة وغاضبة في آن واحد، واخطر مايهدد الثورة هو أن تتماهى مع السياق الذي جاءت لتثور ضده. بالتأكيد كل ثورة تأتي بجزء من القديم وجزء من الجديد وعلى قدر ماتستطيع الثورة أن تخلق من جديد يقاس نجاحها وتتمكن من تحقيق اهدافها.

جاءت ثورة فبراير في اليمن لتخلق سياقا جديدا في اليمن، تدعو للسلمية في بلد غارق في الحروب، تدعو للهوية الوطنية الواحدة في بلد غارق في الانقسام وتنادي بالدولة المدنية في دولة غابت لتحضر القبيلة والمنطقة والطائفة، لدولة يحكمها القانون بعد ماحكمها السلاح والفوضى. لحق الجميع بالثورة، تركت القبائل سلاحها لتلحق بالثورة وتركت الاحزاب نخبويتها لتلحق بالثورة وترك المتخاصمون نزاعاتهم ليلحقوا بالثورة. الكل يريدها سلمية ومدنية، هكذا لوهلة انتصرت الثورة في خلق اطارها الخاص الذي يجمع الكل بسلميتها وشمولية مبادئها، ونجحت خلال فترة بسيطة في اسقاط جزء كبير من النظام لكن بعد ماحققت انجازها الاكبر في اسقاط هذا الجزء الاكبر توقفت الثورة وتخشبت مفاصلها وكأنها اصيبت بعاهة.

منذ 18 مارس وحتى اليوم الفارق في الثورة اليمنية والثورة مشلولة تماماً، يومها حققت مابدا ظاهرياً نصراً مؤزراً عندما استقال عدد كبير من السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين من النظام، كانت وقتها الثورة في مد تصاعدي وكل من يلحق بها تفرض عليه مفرداته وأطرها. انتشي يومها الناس وطربوا، لكن الأمر في الواقع كان اقرب لاثارة القلق منه للنشوة، جاء انضمام الفصيل العسكري لعلي محسن الاحمر سببا حقيقيا للانشقاق فهو ضمن احد اهم مكونات السياق التي قامت الثورة ضده، فالرجل شريك في الحكم. هذا ما جعل انضمامه تدعيما لقوى معينة داخل الثورة وهي الاخوان والسلفيون وبعض التجمعات القبلية، مقابلها مجموعات مدنية وتجمعات قبلية اخرى والحوثيون، ولسبب غير مفهوم ترك الثوار مهمة حماية الساحة وتفتيش الداخلين لجنود الفرقة الأولى مدرع وكان هذا اول تنازل من الثورة للأطراف الاخرى التي تلحق بها لتمسك بزمام المبادرة الذي كان خاص بالثورة.

ادى انضمام القائد علي محسن لاستقواء اطراف وشعور اطراف اخرى بالانزعاج اوالتوتر من هذه الحالة الجديدة التي ألقت بظلالها الثقلية عندما انقسمت الساحة اولاً حول فكرة الزحف ثم قصة الاعتداء على الناشطات بالضرب وغيرها من أمور كشفت حجم الانشقاق داخل الساحة بين الطرفين المستنفرين، هكذا افرغت الساحة من العمل الثوري لعملية تنازع مستمرة وكانت قضية الزحف احد ابرز محاورها، وصارت الثورة تدور حول هذه الفكرة المظلمة، وبشكل ما انحاز الاعلام الدولي والمحلي لصالح طرف يمثله علي محسن الأحمر مقابل طرف يدعو للرئيس علي صالح وبينهما شريحة واسعه فعلاً غير ممثلة في كل هذا لا سياسياً ولا اعلامياً ولا يحميها عسكر. لحظتها بدأت الثورة تسلم نفسها للآخرين الذين يمثلون السياق الذي خرجت منه وصارت اقرب لسياقها الخارجي منه لسياقها الذاتي المستقل بها.

بالغ الكثيرون في تقديم انضمام علي محسن بإنه أمر يخدم الثورة ويحميها، لأن امكانات فرقته بالتأكيد كانت اضعف من ذلك بكثير خاصة بعد تهالكها جراء حرب صعدة غير ان انضمامه جعل انقسام الجيش خطرا حقيقيا تتحمل مسؤوليته الثورة المطالبة أن تتصرف بهدوء حتى لاتستفز احدا، لكن ليس هذا اسوأ مافي الأمر بل هو الاسوأ هو تحويل الثورة لدرع بشري. ففي ما صار يعرف بمحاولة اغتيال علي محسن، في هذه الحادثه جرى مايستحق التوقف عنده حيث قام بعض الشباب بنصب الخيام والاعتصام أمام مقر قيادة علي محسن في شارع الستين، هكذا بعمل فردي لمجموعة قررت الاعتصام هناك ورحلت فيما بعد فجأة مثلما جاءت بعد ما قامت بمهمتها في الدفاع عن علي محسن بحيث لو جرى اي استفزاز له يكون في موضع المدافع عن الثوار المعتصمين.

اللافت في هذه الحادثة إنها لم تستوقف احدا ولم تحاول ساحة التغيير تبرير ما جرى والتنبه لخطورة الزج بها في صراع بين اطراف السلطة التي حكمت البلاد لمدة ثلاث وثلاثين عاماُ، فانضمام علي محسن للثورة لا يعني إنه لم يكن شريكا للسلطة. وبدا من الموقف إنه لم ينضم إلا لتحميه الثورة، حيث صار استهدافه اكثر صعوبة بعد انضمامه للثوار، فهو تعرض اكثر من محاولة اغتيال مرت كلها بصمت إلا تلك التي حدثت بعد انضمامه للثورة وجعلت عملية اغتياله فكرة صعبه بجد.

انتقلت الثورة من مربع الثورة لمربع الصراع على السلطة وانقسام الجيش إلى مربع آخر وهو الأزمة السياسية بين السلطة واحزاب المعارضة اثناء المبادرة الخليجية، وبالتدريج العمل الثوري بدأ يفقد زخمه وفي كل مرة ينقسم الصف الثوري سواء من موقفها من انضمام علي محسن ومن ثم المبادرة الخليجية وفي وسط هذا كله تتبدى فكرة الزحف كمحور تدور حوله النقاشات والانقسامات معطلة التفكير في اي اتجاه آخر مثل محاولة تقوية الاطر والمفاهيم التي قامت لأجلها الثورة، بل بدت الثورة هادئة مستكينة مع علي محسن بينما هاجمت مكونات مدنية مثل الاحزاب بقسوة مفرطة دون تقديم أية بدائل في ظل غرقها بفكرة الزحف.

استفادت السلطة كثيراً من ظهور علي محسن في الصورة حيث كسبت جزءا لا بأس به من الشارع والاستفادة من انقسامات الساحة تجاه شخصية جدلية مثل علي محسن، ثم كسبت من جديد عندما استغرقت الساحة قضية المبادرة الخليجية وفي كل مرة فشلت الثورة في فصل نفسها عن هذا كله لا عن علي محسن ولا عن الاحزاب باعتبارها عملا ثوريا مختلفا عن العمل السياسي الحزبي.

جاءت احداث الحصبة لتنقل الثورة للمربع الاكثر خطورة وهو الحرب الأهلية، وهو مربع سوف يمد من عمر النظام أشهرا كثيرة في وقت ضجر الشباب داخل الساحات وضاق الناس بضنك الحياة البائسة في الاصل غير إنه يفقد الثورة قيمتها الحقيقية وهي السملية. اسقاط الرئيس لم يعد أمراً يستحق الحديث عنه فحتى لو عاد الناس لمنازلهم لن يبق الرئيس بل سيرحل، فكيف له البقاء بعد هذا الاهتزاز الضخم لدولته المتهاوية في الاصل، لكن سلمية الثورة خط أحمر ليس فقط حفاظاً على مستقبل البلاد لكن لأن اهداف الثورة تتحقق عندما تقدم الثورة اليمنية سابقة التغيير سلمياً في التاريخ اليمني الحديث المخضب بالدماء. فاليمنييون خاضوا خلال ربع قرن عشر حروب بدءاً من حرب 1986 بقتلاها العشرة آلاف لحروب صعده بقتلاها الخمسة آلاف وكلها ارقام متواضعه في عدد الضحايا لكن المهم إن عدد الحروب بالفعل ضخم ومخزي وسنجد صعوبة حقيقية في عد جميعها خلال خمسين عاماً. هذا الرقم الضخم من الحروب يكشف ليس فقط حجم التشوه في الحياة السياسية بل في الشخصية والثقافة اليمنية التي لم تعد تستنكف العنف وتراه باستنكار حقيقي، فكانت هذه الثورة ثورية في مفاهيما السلمية وخروج عن السياق السياسي البائس الذي يحكمه العنف والسلاح وبالتالي منطق الغلبة لكن انجرارها لهذا المربع هو افراغ كامل ليس فقط من العمل الثوري مثل سابقاتها بل من مفهومها وقيمتها، ليعود اليمنيين للسياق المعتاد من العنف وينتهي علي عبدالله صالح النهاية المعروفة مابين حرب قد تؤدي لقتل أو منفي أو عملية اغتيال أو انقلاب عسكري، لتنسف احتمال التغيير السلمي الثوري للسلطة الذي تسعي اليمن لتأسيسه من خلال تسجيل اول سابقة له.

لا يعنيني كثيراً ادانة نظام صار يتصرف بانعدام مسؤولية ولا يعنيه إلا البقاء حتى لو كان هذا البقاء يعني الحفاظ على السلطة في بلد مستعرة بحرب اهليه في حالة من انعدام الشرعية وفقدان العقل غير مسبوقة. لكن ما يعنيني فعلاً هو من يتحدث باسم الثورة ويتصرف باعتباره جزء منها لأن هذه الثورة هي من تؤسس المستقبل بعد ماصار النظام جزء من الماضي بالفعل. فعندما يتحدث الشيخ صادق الاحمر باسم الثورة هذا امر يشغلني فعلاً فهو انضم لها قائلاً إنه لن يسرق الثورة.. لكن فعلا هناك تساؤل حقيقي يطرح نفسه حول مدى صدق هذا عندما يرد على اعتداء الرئيس وهو محسوب على الثورة السلمية حسب ماهو ادعي. في الواقع ادعوكم للتأمل قليلاً في الفارق بين حالتين حالة والد نزار الشاب الذي يبلغ من العمر 17 عاماً وقتل إثناء مظاهرة سلمية، فكتب والده رسالة تدعو للتسامح والعفو عن قاتل ابنه تأسيساً لوطن يعيش بسلام وفي المقابل سوف نجد حالة الشيخ صادق الأحمر الذي اعتبر الاعتداء على بيته من خلال تعبئة مدرسة مقابله بالسلاح سبباً كافياً ومبرراً مقنعاً ليس فقط للدفاع عن النفس بل للإعتداء على منشآت حكومية. في الواقع الفارق بين الحالتين مهول حقيقي يكشف عن وجود وعيين، وعي يؤسس لمفاهيم العمل السياسي السلمي والدولة المدنية وحالة وعي تظل متماهيه مع الوضع الحالي وضمن السياق الذي قامت الثورة ضده، ضد عنفه وعصبيته واعتدائه على الدولة، ناهيك عن فارق حجم الاعتداء مابين فقدان روح الابن وشبهة الاعتداء على منزل محصن.

ادرك تماماً إن انضمام بعض الاسر والقبائل المحسوبة على السلطة وغيرها أمر لا مفر منه في نظر الكثيرين وهو كذلك إلى حد كبير، فنحن إذ نثور فنحن لانثور ضد سلطة بمكونات مؤسسية مثل حزب وأمن بل ضد نظام تلاعب بمكونات اساسية داخل المجتمع اليمني لكن مع مسخ حقيقي بقيمها ومبادئها مثلما حدث للقبيلة. ربما لم يكن يحق للثورة التي هي ملك الوطن أن ترفض احد يريد الانضمام لها، لكن كان عليها أن تحافظ على نسقها المستقل في وجه الكل وألا تفرط الثقة بدخولهم، لم يكن ينبغي عليها أن تحوطها الفرقة الأولى مدرع ولا أن تربط نفسها بالمبادرة الخليجية و لا أن تستقبل الشيخ صادق الاحمر بعد القتال كأنه يدافع عنها فهذة سرقة جهاراً نهاراً للثورة وسلميتها، فإذا كان الشيخ صادق له الحق في الدفاع عن نفسه لكن ليس له الحق في الزج بالثورة وسلميتها وإذا بالفعل صدقت رغبته في عدم سرقتها فكان عليه حصر الأمر بينه وبين الرئيس، لكن الثورة صارت بزخمها الشعبي والتزامها الاخلاقي درع بشري للجميع تتلقى الضربات نيابة عنهم، فيعودوا اقوى وتصبح الثورة اضعف.

الثورة صارت آلان يتيمة ومنتهكة من الجميع، سلميتها انتهكت ومدنيتها اهتزت وتجاوزها للفوارق الايديولوجية والسياسية والتعصبات القبلية صار محل شك. وهذا كان ناتج طبيعي لطول مدة الثورة الناتج عن طبيعة النظام اليمني وهو ليس بمستغرب في تجارب الثورات في مختلف انحاء العالم، لذا كانت الثورة محتاجة لتطوير آلياتها وادواتها والخروج من الرغبة القوية في محاكاة الثورتين التونسية والمصرية القصريتين زمنياً واللتين لجأتا لفكرة الزحف نحو القصر الرئاسي لإعطاء الغطاء الشرعي لتدخل الجيش وحسم أمره وليس للصدام معه مثل الحالة اليمنية.

الثورة كانت في المقدمة يلحقها الجميع ويتبني خطابها ومفاهيمها واليوم هي في المؤخرة تلحق لاهثة وراء الجميع قيادات عسكرية أو احزاب سياسية أو شيوخ قبائل، لأنه غابت عنها الفكرة الحقيقية وتضاءلت احلامها من مطلب اسقاط النظام بقيم العنف وتراجع دور الدولة إلى شخصنته وصار مطلب اسقاط الرئيس هو مطلبها وهو سقف منخفض جداً لايليق بثورة هدفها هو خلق الممكن وليس العمل ضمن اطار الممكن فقط، ومع تضاءل الفكرة تنخفض الهمم وتفتر العزيمة وتتبلبل النفوس وربما تسير في اتجاه العنف كما اتجهت من قبل باللهاث وراء الآخرين. وهذا الاختلال خطير وربما يرشح الثورة لتصبح عملية تدوير للسلطة لا اكثر ولا أقل مع بعض التعديلات الشكلية هنا وهناك وبين اسقاط الرئيس واسقاط النظام بون شاسع فعلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى