[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

هي اليمننة!

درج الساسة اليمنيون في السلطة والمعارضة على إلقاء اللوم على بعضهم بعضاً، وتبرئة أنفسهم مما يُقترف من أخطاء وجرائم، وما يُفتعل من أزمات تنعم بأطراف متنصلة من اختلاقها!

وفوق هذا يستمر الخطاب السياسي في التصعيد، فيما المطلوب التهدئة.

يزيد عليه استمراء الاستدانة من أفكار وتجارب غيرهم بعلاتها دون تبصر بما جرته تلك التجارب من سلبيات لا توحي برشد وانضباط مدبريها!

ولم يعمد الساسة في السلطة والمعارضة اليمنية إلى الهدوء للتمعن في المشكلة، بل أخذوا يتجاذبون أشكال التشنج والتشدد والتشبث بمواقفهم ورؤاهم، حتى افتقدوا حاسة الإصغاء للآخر سواء تحلى بصفة العقل أو غيابه.

والمشكلة أن “احمرار” الأزمة اليمنية واصطباغ أطرافها بلون واحد، لم يتح فرصة إشراك جاد للألوان السياسية والاجتماعية المحلية الأخرى في البحث عن الحل من الداخل، أما الخارج بحلوله فالباب مفتوح له على الدوام ليرى التشوهات الداخلية، حيث لا يطلب من الداخل غير حشد الأنصار، والزج ببعض شباب مأخوذ بموجة التغيير لملء الساحات، إذ ليس مطلوب منهم ومن غيرهم أكثر من التأييد والتصفيق والمناداة إما بإسقاط النظام أو بإبقائه.. وجرى تجاوز النداء إلى الاقتتال أو الانتحار والإنهاك في سبيل ذلك!

ولا غرابة إذا وُجد يومئذ في الشعب اليمني شعوباً متعددة وقبائل منقسمة ليتعارضوا:

شعب يريد إسقاط النظام.. وشعب يريد إبقاء النظام.. وشعب يريد رحيل النظام والمعارضة.. وشعب لا يدري ماذا يريد.. وشعب لا يريد شيئاً!

غير أن الجامع بين بعض الشعوب اليمنية، مطلب الاستقرار المعيشي والأمان النفسي، بدون اكتراث بتداعيات الأزمات السياسية، سواء انشق الجيش أو استقال أعضاء المؤتمر، أو أيّد رموز المجتمع نشاط الشباب، أكان المتصارعون و”المتقاصفون” هم “اليمنيون الحمر” والضحايا هم “اليمنيون السمر”، فما يعني المواطن: اللقمة لا القمة!

إن ذاك كله تعبير عن حالة فريدة عن باقي الحالات كالصوملة وغيرها، هي:

“اليمننة” التي يبرع رموزها في اختلاق المشاكل دون أدنى اجتهاد في ابتكار الحلول.

إنها اليمننة التي برغم تعدد مكوناتها الاجتماعية لا تعبر إلا عن أزمة منظومة سياسية واحدة تنفرد بالتحكم فيها.

وتستوعب بشكل فريد كل سلبيات الفراغ الفكري.

تلك اليمننة تفصح عن أزمة انعدام ثقة متبادلة لم تُبدِّد فرص اكتسابها مجدداً، وإن سعت أطرافها إلى تبديد أي فرص للبناء والتوافق والتعايش المشترك!

وهذه اليمننة يتعجل رموزها الزمن، بدون استيعاب لما فات من المحن.

وتتمحور بغياب التفكير في المستقبل وأبعاده، فتجر على البلد ويلات المجهول بالنزق والتطرف في المواقف.. وغياب الرشد.

ولا يؤمن أطراف اليمننة بوجوب الترشيد في سبيل التغيير أو الثبات.

كما يعمى أطرافها عن رؤية الواقع، لانبهارهم ببريق وإغراء التاريخ.. ما يستدعي مقولة نجيب محفوظ في روايته “السمان والخريف”: ألا لعنة الله على التاريخ!

ومن ملامح اليمننة: تجاهل المستقبل وفقر الوعي، والافتقار إلى الاستفادة من التجارب البعيدة الماضية وحتى القريبة الحاضرة بتأثير تغييب العقل والرؤى الناضجة والذاكرة الحية والاستناد المرجعي عليها، فلا يتبينون الصديق من العدو، ولا يميزون الصالح عن الطالح.. لأنهم كما قال الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان “الفُضول”:

كم أذلوا العقل نبذا واجتنابا..

وأقاموا للمجانين قبابا..

واحتووا ملء مراعيهم ذئابا..

ولذلك لم تتح اليمننة فرصة تحمل المسئولية الجماعية عن كل ما حدث بأن يقول كل طرف “ولو كذباً كلاماً ناعماً”:

كلنا مسئول عما حدث، وكلنا مسئول عن معالجته وتلافي أضراره.

كلنا مسئول بالاستفزاز إلى الخطأ، وكلنا مسئول بالانزلاق إليه.

وكلنا مسئول عن تبديد الفرص، وكلنا مسئول عن إهدار طاقات الشباب ومقدرات البلد.

كلنا مسئول عن دخول “(سنة خامسة) تعبئة خاطئة”، وكلنا مسئول عن تدهور الحال.

وتبعاً لهذه المسئولية كلنا مسئول عن تجاوز التدهور بالانتقال إلى التطور المطلوب بشكل سلمي.. ومهذب.. يستوعب القضايا العامة ولا يشخصن بواعثها.

لم يقل أحد ذلك لأن اليمننة تعني فيما تعني: التمترس وراء أسوار التخلف وحواجز الاعتراف بالواقع والاغترار بالنفس، واعتبار الطرف نفسه لما يقوله صواباً وما دونه خطئاً لا يحتمل الصواب!

اللهم أجِر اليمن من يمننة أبنائه، واعف عنه من هزؤ وخذلان وإشفاق أصدقائه وأشقائه، وانبعاث سماسرته وشرور شياطينه وتمادي أشقيائه.

زر الذهاب إلى الأعلى