[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

نوبل لراشد الغنوشي أيضاً

(1) عندما بدأت الكتابة في 'القدس العربي' في عام 1996، كان عنوان أول مقال كتبته 'جائزة نوبل للسلام للمعارض العربي'. جاء في ذلك المقال أن السبب في أن كثيراً من البلدان العربية لم تتحول بعد إلى مسارح للحروب الأهلية يعود إلى ضبط النفس والحكمة عند قيادات المعارضة لا إلى الحكومات التي فعلت كل ما في وسعها لاستفزاز المعارضين وانتهاك كل الحرمات.

(2)
لم أذكر الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة بالاسم في تلك المقالة، ولكنه من كنت أعني، لأنه في اعتقادي جسد القيم الإسلامية العليا في السماحة والتعقل وعدم الانجرار إلى مستوى الفعل ورد الفعل. وقد عرضه هذا الموقف لكثير من التهم والتجريح بلغ حد التكفير في تلك الأيام التي شهدت قمة العنف في الجزائر وليبيا والعراق ومصر والسودان وغيرها. وقد كانت الحكومة القمعية الاستئصالية في تونس أعطت حركة النهضة كل العذر لو أرادت مواجهتها بالقوة.

(3)
لم يكن ذلك الموقف من الشيخ راشد وحركته موقفاً اتخذ تحت ضغط الظروف، بل كان موقفاً مبدئياً. وكنت قد التقيت الشيخ راشد لأول مرة في تونس عام 1986 وأجريت معه حواراً دام ليلة كاملة، ونشرت بعد ذلك سلسلة مقابلات معه في مجلة 'أرابيا'. وقد شرح في تلك اللقاءات موقفه المبدئي المؤيد للديمقراطية حتى لو جاءت بحكومة شيوعية كما قال. وكان يرفض من ناحية المبدأ فرض أي رؤية سياسية أو دينية بقوة الدولة.

(4)
كان ذلك الطرح جديداً في الأوساط الإسلامية، سابقاً التجربة التركية بأكثر من عقد من الزمان، وإن كان يا للمفارقة- قد تأثر نوعاً ببعض أطروحات الشيخ حسن الترابي في السبعينات، حيث كان وقتها ابتدر التنظير للديمقراطية إسلامياً. ولكن حركة الاتجاه الإسلامي في تونس طورت ذلك الطرح وعمقته فلسفياً وفقهياً.

(5)
لم تتعرض الحركة الإسلامية التونسية للعنف من قبل الدولة فقط، بل أيضاً من التيارات اليسارية والعلمانية التي كانت مهيمنة على الساحة وقتها. وفي زيارة لي للجامعة روى لي طلاب الحركة كيف أن أنصارهم في عدد من الكليات تعرضوا لهجمات من قبل تيارات مناوئة استخدمت فيها العصي والجنازير وكثير من أدوات العنف.

(6)
عندما قمت بزيارة الشيخ الغنوشي كان لزاماً علينا أن نتخذ إجراءات احترازية معقدة للتهرب من الشرطة والأجهزة الأمنية التي كانت تلاحقه. وبعد أشهر قليلة من ذلك اللقاء تم اعتقال الشيخ وتقديمه لمحكمة تلقت توجيهات كما رشح فيما بعد لإصدار حكم بالإعدام في حقه وعدد من رفاقه. ولكن الإطاحة بالرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في عام 1987 أفشلت ذاك المخطط.

(7)
لم تمر أشهر حتى بدأ أنصار الحركة يترحمون على أيام بورقيبة، لأن الحاكم الجديد أظهر تصميماً أكثر من سلفه على استئصال الحركة، خاصة بعد أن أظهرت مشاركة بعض قادتها في أول انتخابات في عهده كمرشحين مستقلين (لم يسمح للحركة بالمشاركة رسمياً) تفوق هؤلاء المرشحون على مرشحي الحزب الحاكم بفارق كبير. وقد شن النظام حملة اعتقالات في أوساط الحركة، وتعرض المعتقلون لتعذيب وحشي وحكم على كثير منهم بالسجن فترات طويلة. بل إن من أطلق سراحه أو بقي خارج السجن حورب في معاشه، لدرجة أنه كان يطلب من الشخص أن يوقع في محاضر الشرطة مرتين في اليوم، مما عنى عملياً بقاءه معتقلاً.

(8)
كان من الصعب أن تستمر حركة تعرضت لهذا الحجم من القمع في المناداة بالتسامح وقبول الآخر، خاصة وأن كثيراً من الحركات السياسية (التي تتحدث اليوم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان) ساندت ذلك النظام القمعي كما ساندته الدول الغربية ودعمت حملته ضد الإسلاميين. ولم يقف الأمر عند ذلك، بل إن النظام تحالف مع بعض الاوساط الغربية المؤيدة لإسرائيل لشن حملات تشويه وتشكيك ضد الشيخ راشد شخصياً وحركته. وكانت المفارقة أن هذه الحملات تحولت إلى مصدر دخل للشيخ راشد والحركة، لأنه كان يرفع دعاوى قضائية ضد الصحف التي كانت تنشر الأكاذيب حول مواقفه وتتهمه بالإرهاب، ويكسب مبالغ لا بأس بها حين تسارع تلك الصحف بالتراجع عن مزاعمها التي لا تسندها حجة.

(9)
يمكن اعتبار الفوز الكاسح والمستحق لحزب حركة النهضة في تونس في الانتخابات التي جرت هذا الأسبوع دعماً لا لبس فيه للنهج المتعقل والمعتدل الذي اتبعته الحركة في تونس، وأيضاً اعترافاً بتاريخ الحركة النضالي وصمودها في وجه نظام لم يتورع عن إثم أو كبيرة في سبيل إسكات أصوات لا ذنب لها سوى أنها نادت باحترام كرامة الإنسان. وفي اعتقادي أن النهج التوافقي المعتدل الذي اختطته الحركة ساهم في سحب البساط من تحت أقدام الأنظمة التي استخدمت فزاعة الإسلاميين لإرهاب أنصار الديمقراطية، وبالتالي ساهمت في إنجاح الثورات العربية التي لم تبدأ مصادفة من تونس.

(10)
استجابت لجنة جائزة نوبل بصورة غير مباشرة لدعوتي بعد عقد ونصف من إطلاقها حين كرمت المعارض العربي المسالم في شخص الناشطة اليمنية توكل كرمان، وبالتالي كرمت النهج الذي كان الغنوشي والحركة التونسية أول من خط معالمه. ولم تكن قيمة المساهمة التونسية فقط في السبق والمبادرة، بل في التصدي لنظام لا نظير لشراسته وبطشه بدون الانزلاق إلى أساليبه.

(11)
إلا أن الفوز بحكم تونس أو أي بلد عربي آخر في هذه الظروف لا يعتبر بأي حال جائزة أو هدية. فحركة النهضة لا تحمل على عاتقها مسؤولية مستقبل الديمقراطية في تونس، بل كذلك مصير الديمقراطيات العربية كلها ومستقبل الحركات الإسلامية ودورها السياسي. وإنه لعمري عبء ثقيل ومسؤولية كبرى، نأمل أن يكونوا في مستواها.

زر الذهاب إلى الأعلى