[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

صراع العبث

من السخيف جدا أن يظن أن قدر الثورة ومستقبلها سيترتب على ما ستؤول إليه "معارك" منصة ساحة التغيير بصنعاء.

عني لا أشعر بذرة خوف مما يجري الآن من "عبث" طفولي مذل ومخزي. لكن المؤلم في الأمر أن يكن الشباب من مختلف الأطراف أدوات للعبة سياسية هي أكبر بكثير مما يجري في الساحة. فهو ليس إلا "وجع رأس" عند داء عضال من الأفضل أن يعالج بهدؤ بين أطرافه بعيدا عن الساحات.

الثورة ليست "المنصة"، الثورة هي خيار سياسي، ورمزيتها هنا "المنصة" في خيارها السياسي الذي تمثله، لكن من عجائب الأمور أن منصتنا المتصارع حولها أنها لا تعبر فعلا عن أي من الخيارات المتصارعة، على إعتبار أنها قد تحسب على المشترك، فهي في الحقيقة لا تعبر عن خياره السياسي الذي يتبناه من خلال التسوية السياسية، فهي في خطابها إلى المحتجين على التسوية أقرب، ليبدو الصراع حولها الآن ليس صراع خيارات بقدر ما هو صراع عبثي لحسابات بينية.

ف"المنصة" ليست راضية عن التسوية السياسية، والحوثيون وبعض المستقلين غير راضيين أيضا، وجميعهم يمارسون خطابا تحريضيا كبيرا عليها، ويجمعون على إعتبارها خيار غير "ثوري". مع أنهم في الواقع لا يملكون بديلا ثوريا آخر ممكن ومقنع.

الفرق أن المنصة وهي تمارس هذا الدور تقصد أنها تقوم بلعبة في "التخفي والإخافة" بأن تقول أنها لا تعبر عن المشترك وخياره السياسي، وأنها بذلك تخيف "صالح"، مع أن اللعبة ومنذ أشهر الثورة الطويلة أصبحت مملة ومكشوفة، ولا يصدقها أحد، ولا تخيف أحدا أيضا. فيما الحوثيون قد يقصدون حقا رفضهم "للتسوية"، ويقصدون بالفعل إسقاطها، ليس لما يعتقدون أنها خيار غير ثوري بقدر ما هي ليست خيارهم المفضل.

بعض المستقلين الطيبين ربما من يعتقدون حقا أن التسوية لا تعبر عن خيارهم الثوري "الحلم"، مع أنك قد لا تجد عندهم تصورا معينا لما ينبغي أن يكون عليه ذلك الخيار. مع أن الحقيقة أيضا أن كثيرا من المستقلين داخل الساحات وخارجها يفهمون أن التسوية السياسية نجاح ثوري ووطني ولا يخفون دعمهم له والحرص عليه.

عني، ومنذ البدايات لا أفصل بين الأداء الثوري والأداء السياسي الذي أجده ثوريا أيضا، لأجل ذلك لا أجد التسوية السياسية المتفق عليها الآن إلا إنجازا ثوريا كبيرا لهدف إنجاز أشمل وأكبر للتحولات الديمقراطية ما كنت أجد أنها ستكون بطريق آخر غير التسوية السياسية.

لأجل ذلك ومنذ بداية "الثورة" في فبراير كنت ممن فضلوا أن تنزل أحزاب اللقاء المشترك بقياداتها الرسمية الكبيرة إلى الساحات وأن تتحمل مسؤوليتها التاريخية في قيادة "الثورة" في الشارع وفي غرف المفاوضات جنبا إلى جنب.

ولدعم هذه الفكرة تبنيت مع بعض الزملاء من خلال المركز الإعلامي في ساحة صنعاء وبتنسيق مع منتدى التنمية السياسية مشروع "حوار الثورة" بغرض إجراء حوارات ومقاربات في الساحة من ضمنها دعم فكرة أن الأداء السياسي لأحزاب المشترك كواجهة سياسية للثورة أمرا مهما ومتطلبا لنجاحها لما تمثله الأحزاب من جهات منظمة ومجربة في العمل السياسي.

إضافة إلى ما تتطلبه خصوصية تجربة الثورة اليمنية من جهة المخاطر والصعاب المتمثلة في قضايا الصراع السابقة للثورة كالقضية الجنوبية وقضية صعدة وطبيعة النظام الأسري وطبيعة الجيش وأهمية الدور الإقليمي والدولي في البلد كقضايا مجتمعة تتفاعل مع بعضها لم يكن للثورة تجاهلها، أو التعاطي معها بدون قيادة حزبية سياسية مجربة.

الفكرة عرضتها في مقال نشرته في يناير بصحيفة المصدر وبعض المواقع الإلكترونية بعنوان "تسونامي التحول الديمقراطي .. كيف له أن يكون ممكنا في اليمن ونجنبه مخاطر الفوضى والإنتكاس". ومقال آخر بعنوان "لن تسرق الثورة". ومقالات أخرى كرستها لذات الغرض.

إلا أن أداء صاخبا كان قد طغى على "الساحات الثورية" وبتواطؤ من المشترك نفسه، حتى الآن لم أستطع فهم لم أقدم عليه، كرس أن الثورة لكي تكن ثورة أن ليس لها علاقة بالأداء السياسي، هذا الأداء الطاغي حينها أحبط فكرتنا عن "حوار الثورة" والمقاربات التي كنا ننشدها لأهمية الأداء الحزبي السياسي وقيادته المعلنة والصريحة للثورة.

لا يهم ما جرى بعد ذلك، فهو قد حدث عموما، مع أن الأداءات الثورية المزعومة لم تنفصل يوما ولم تذهب بعيدا عن الأداء السياسي في إدارة الثورة. لكن ما ليس أفهمه الآن وبعد التوصل للتوقيع على التسوية السياسية، والبدء عمليا في تنفيذها، هو مواصلة منصات الساحات وبعض القيادات السياسية المحسوبة على الثورة الترويج لفكرة الفصل بين الأداء الثوري والأداء السياسي، بل والتحريض على "التسوية السياسية" بحجة "الثورية".

أعلم جيدا أن ما تم التوصل إليه من خلال التسوية السياسية هو ما كان ينبغي أن يكون لأجل الوطن ولأجل الثورة، كما أعلم أن المشترك كان يدرك ذلك منذ البداية وأنه نجح في جلبه من خلال إدارته الجيدة للثورة والتعاطي الجيد مع الإقليم والعالم لجلب دعمهم لعملية التغيير من خلال المجلس الخليجي ومجلس الأمن بإجماع دوله بما فيها الخمس الدائمة العضوية، لم يكن من الممكن تجاهل دورهم لإنجاح الثورة.

القول الآن أن قبول المشترك بالتسوية كان نتيجة الضغط الدولي والإقليمي، وأنها غير منصفة، قول غير صحيح، كما أنه لا يساعد الثوار على الإحساس بقيمة الإنجاز الثوري الكبير.

خطورة هذا الخطاب الذي للأسف لا يزال يمارس في الساحات الثورية، أنه لا يخدم الأجندة السياسية للثورة، وخيارها المعلن الذي تبنته التسوية السياسية، بل يخدم الأجندة الأخرى بما فيها أجندة النظام نفسه.

أشعر بالتعاطف مع الشباب وهم يتركون للمعاركة فيما بينهم، فيما المنصة وبعض القنوات المحسوبة على الثورة لا تزال تمارس خطابا تحريضيا على التسوية، بحجة غبية هي الحفاظ على الثورية.

الثورية الآن في نظري في دعم التسوية السياسية، في أن يتحلى القادة السياسيون بالشجاعة الكافية لقيادة خيارهم الثوري السياسي وإقناع الناس به في الساحات وغير الساحات، ما ليس من الثورية أن يحرض على التسوية من جهة، وأن ترفض الدعوات والمحاولات لتعريضها للخطر من جهة أخرى، فهما أمران لا ينسجمان.

زر الذهاب إلى الأعلى