[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

لِماذا سَكَتنا نصفَ قَرْن؟

باعثُ هذا التسآؤل قديمٌ عندي .
ربما يتجاوزُ عمرُهُ عمرَ مَنْ وُلدُوا في ثلثِ قَرْنٍ مِنْ عهدِ الرَّجُلِ الذي حكمنا بالهاتف ! وليسَ عيباً أنْ ينبُشَ المرءُ جُرْحَهُ المتقيِّحَ ؛ ولكن العيبَ أنْ يظلَّ يَحُكَّ حواليهِ خوفاً مِن ألم فقأِ الجرح !.. أَلْفُ ' لماذا ' تنتظرنا جميعاً . وما دموعُ ' باسندوة ' إلا إحداها . ولنْ تكونَ الأخيرة !

لستُ متشائماً !
ولكن سكوتنا يجعلني غير متفائل . وسكوتنا الذي ضمَّنا جميعاً بلا اسثتناء في كهوفِ العجزِ المقيت .. هو سكوتنا جميعاً في كل اليمن التي عرفها التاريخ ، ونحن نتقاتلُ - وما زلنا حتى اللحظة - على حصيرةٍ ومعدةٍ فارغةٍ ومعزة شارفتْ على الهلاك - سواءاً ما كانَ في الجنوب ، أو الشمال ، أو الشرق ، أو الغرب ، في هذه الأرض التي أعطتنا كلَّ ما في جهدها ؛ ولمْ نعطها سوى الكُرْهِ ، والحقد والحسد ، والقتل ، والدم المسفوح كذباً في معاركنا الدونكيشوتية .

ربما يكون الكاتبُ أول من صاغ عبارة ( المصارحة قبل المصالحة ) - وعني سرقها علي لحظة وداعه حين قالها . الدُّموعُ صفةٌ يمتازُ بها الأتقياءُ الباسلون . وإذا رأيتَ عيونَ سَمَيْذَعٍ ، كريمٍ ، تفيضُ مِنَ الدمعِ ، فاعلمْ إنها نواقيسُ الخطرِ التي لا يسمعها إلا ذو حظٍّ عظيمٍ ، وفؤآدٍ متوقِّدٍ ، وقلبٍ ذكي . وهي تعبيرٌ إنساني عميق ، يتَّسمُ صاحبها بوضوحِ الرؤى ، وجلاءِ البصرِ ، وحدَّةِ البصيرةِ .. مع رقَّةِ القلبِ فيه ، ولطفِ الروحِ عنده ، وسموِ الإحساسِ لديه ، وغرامٍ أكيدٍ فيما تريدُ تلك الدموع أنْ تقوله ، وفيما يريدُ أنْ يقولَه !

والمنطقُ الذي نتوهمُّه بأنَّ الشُّجاعَ لا يبكي ؛ هو منطقٌ خاطىء وبليد . وإذا خلا الشجاعُ من صفة الكريم ، أضحى كالسيف المجنون . فالكريم وصفٌ ملازم للشجاعة . ولهذا رأينا باسندوة تفيض عيناهُ بالدمعِ وهو بستقبلُ الكارثةََ ! ولم نرَ علياً يذرف دمعةً - ولو كاذبة - وهو يستجدي العفو ، والغفران منا . وهو كاذبٌ بالسليقةِ ، والسَّابقةِ ، والطبعِ ، والتمكن ، والمُخاللة ؛ فلماذا لمْ يبكِ ؟ .. الدُّموعُ لا تكذب أبداً !

فلماذا نسقطُ مرةً أخرى ، كلما نهضنا ، وقمنا من سقطاتنا ؟ لماذا نخشى المصارحةَ ، ونهرب دوماً إلى المصالحة ، التي تسحبنا إلى الخلف دائماً ، أو تُهْلِكُنا في قُبَلِها ، ودقونها ، وديونها ؛ في مكاننا متسمِّرينَ .. وكأنَّا خُشُبٌ مسنَّدةٌ ؛ لا ندركُ مصائرنا ، ولا نعي صغائرنا ، ولا كيفَ السبيل .
شيء محزنٌ ، ومخزٍ في آنٍ واحد !

يا سادة ..
لماذا سقطنا جميعنا بعد 26 سبتمبر ؟!
فقط لأننا تصالحنا ، ولمْ نتصارح . ولماذا سقطنا بعد السبعين ! لأننا هربنا مِنَ المصارحةِ ، إلى المصالحة . ولماذا سقطتْ دولة القاضي وحكومة النعمان !.. لأننا تسامرنا في المصالحات ، وهربنا منْ مسامير المصارحات .
ولماذا سقطت دولة إبراهيم الحمدي ؟ لإننا قررنا أنَّ المصالحات تفرزُ البقاءَ لكل التناقضات والمُتغالبن ، ولأننا كنا نعرفُ أنَّ المصارحاتِ تفرزُ البكاءَ مِنَ التألم الكبير المُتأزم بداخل الحلقات كلها . ولمْ ينفثْ مَصْدُورٌ نفثةً واحدةً !
أغتيل الغشمي !
سكوت مطبق .
وكيف جاء علي . سكوت مطبق . ولمْ يخرج من النخبة مَنْ يقول شيئاً . لماذا ؟ لأننا ننتظر مصالحات تبرر البقاء للمختلفين المتحالفين .

ونفس ال " لماذا " أسوقها ..
لماذا تقاتلنا بعد خروج بريطانيا . تقاتلَ كلَُّ مَنْ كانَ يقاتل يريطانيا . ولماذا حدثتْ كل تلك الإغتيالات والإنقلابات ! ونحنُ صامتون وكأنَّا لا نريد أنْ نعرفَ شيئاً . ولا خرج مِنْ النخبة - شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً - مَنْ يقول شيئاً ..
ولماذا أغتيل سالمين ! سكوت .
ولماذ قتل عبدالفتاح !.. سكوت .
لماذا السكوت .
هل لأننا بانتظار تحالفات جديدة تبرر بقاء المختلفين المتحالفين .

لماذا صمتَ الجميعُ ولم يعرفِ الشعبُ - حتى اللحظة التاريخَ الحقيقي لما حدث - وحتى اللحظة.. وتاريخنا مجرد تخميناتٍ فقط !
لماذا ؟ لأننا نحاولُ أنْ نتغلَّبَ على المصارحات بالتَّحالفات التي تُلْزِمنا المصالحات . فالمصالحاتُ تقومُ على تحالفاتٍ تبررُ لحظةً تاريخيةً ؛ لتمدَّ قليلاً في عمر المتحالفين تأسيساً لخلافاتٍ قادمةٍ ، وتشريعاً لصراعٍ مؤجَّلٍ إلى حين . المصارحاتُ لا تقوم إلا على التحالفات الصريحة . أنها تعتمدُ على المُفاضلاتِ والتكاملاتِ الصريحة - بالمعنى الفلسفي لا الحسابي - لقيام التحالفات . إنَّ الأطرافَ التي تشاركُ وتساهمُ - عن وعي كاملٍ بضرورةِ ذلك - تدركُ تماماً أنْ المصارحاتِ ستفرز ( الأفضل ) و( الأحق ) .. ومِنْ هناك يمكنُ أنْ تقومَ تحالفات صريحةٍ ، إلا أنها تأبى ذلك الوعي تبريرا للبقاء ببقاء الخلاف . ولهذا ترانا نحنُ اليمنيون على بحرِ ثلاثةِ ألفِ عامٍ لم نُنجزْ دولةً واحدةً . تاريخنا كله عبارة عن تحالفات لا يقوم على المصارحة بل على المصالحة . المصارحات لا تؤجل خلافاً يؤسسُ لصراعٍ قادمٍ ؛ بل تحل خلافاً يؤسسُ لمشروعٍ دائم .

تاريخنا كله بحاجة إلى مصارحات . وأتحدى مَنْ يقول أنَّ اليمن لم تكن في صراعاتِ تحالفاتٍ منذ أقدم مراحلها في التاريخ إلى يومنا هذا ؛ ولم تقمُ فيها دولةً واحدةً موحدةً على الإطلاق ؛ مجرد دويلات متصارعة تتداخل في الأزمنةِ ، والأمكنةِ نتيجةً لتغيُّر التحالفات . ولن يعودَ وعينا إلا بالمصارحات !

والثورتان الكبيرتان اللتان حدثتا في اليمن - وأعني سبتمبر وأكتوبر - وُلِدَتا وفي الجنين چينات السقوط ؛ لأنهما منذ ولادتهما قامتا على تحالفات إبتُنيتْ على المصالحات . ولهذا سقطتا . حتى وحدة 1990 جاء بنفس كبسولة المصالحات . ولهذا فشلتْ . أي شيءٍ في هذا الكون لا يقومُ على المصارحةِ يولدُ في كبسولة الفشل . الوحدةُ قيمةٌ إنسانيةٌ ، وحالةٌ نفسيةٌ ، أساسها القدرةُ على الرفض . إذا مارستَ الرفضَ ؛ فإنك تمتلكُ القدرةَ على الإستغناءِ ، وتمتلكُ القدرةَ على الإختيارِ ؛ في آنٍ واحد !

ولنفس السببِ إنهارَالسدُّ بسبب فأر ! كلٌّ يبحثُ عن مصلحته ، بنرجسيةٍ غريبةٍ منقورةٍ بالمقت . حتى بلقيس نفسها ! .. يا سادة نحن نفشل ؛ لأننا لمَّا نتعلمِ الرفضَ .

وربما كانت أصدقُ اللحظاتِ في تاريخنا كله مع أنفسنا ؛ هي لحظةُ الرفضِ التي أعلنها الحراك ؛ والثانية هي لحظةُ الرفضِ التي أعلنتها تعز لحظةَ إعلانها الثورة ؛ والثالثةُ حينَ بكى با سندوة !
لستُ إنفصالياً ..
ولكني - بلا شك - لستُ مع الزواج بالإكراه .

يا سادة مَنْ لا يعرف تاريخه ، ولا يعربُ عن رفضهِ لن يعرفَ غدَهُ ، أو تاريخَ غده . ومَنْ لا يعرفُ مِنْ أين أتى لا يعرفُ إلى أين يسير . وربما يكون أول سؤآل لي لنبدأ المصارحة هو : لماذا لم تتزوج بلقيسُ رجلاً يمنياً ؟
فأجيبوا أنفسكم .
أما أنا فلقد عرفتُ الجواب .. وبكيتُ !

وسامحونا

مصارحة بقلم :
عبدالكريم عبدالله عبدالوهاب نعمان .
مهندس معماري واستشاري .
فرچينيا - الولايات المتحدة الأمريكية .
حزب البسباس .
في 23 يناير 2011

زر الذهاب إلى الأعلى