[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

حضارة الوعي والتعقل

نعيش في زماننا الراهن في افتقار شديد إلى مقومات الحضارة الراشدة..وصفة (الوعي والتعقل) من أظهر وأخص مقومات هذه الحضارة.. فبدون الوعي لا تنهض الشعوب في ميادين التفاعل الحياتي المثمر..وبدون التعقل لا تهتدي أمة إلى سبل النهوض والسؤدد..

وأرى أن هناك تداخل بين مفهوم الوعي والتعقل..فالوعي: يتولد من التفكر الهادئ والمتزن في المتفهم لتفاصيل سير الزمان والمكان والأشخاص وتدوين وجوه تقلبها سلبا وإيجابا واستثمار ذلك في إنعاش الحياة وإصلاح الواقع وإسعاد أفراده وفق المنهج الرباني المعصوم..والتعقل:أداة تخصب وتحتضن هذا الوعي وتنضج نتائجه وتستخلص ثماره وتمده بالحياة..فمن دون ملكة التعقل لا يستقيم الوعي..وبالتالي فكل ما نتج من الإنسان خارجا عن ركيزة التعقل فهو تصرف غير واعي يسهم في تأخير الحضارة الراشدة..
نعم في شريعتنا الإسلامية يرفع الحرج عن كل من سلبت منه ملكت الوعي بعذر غاب فيه التقصد للفعل..أو غابت فيه ملكت التعقل أصلا..قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)وقال:( إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ) فهذه الأصناف فقط يرفع عنها الحرج الشرعي أما غيرها لابد أن تنضبط في جميع ما تمارسه بضوابط (الوعي والتعقل) المصاحب لهما ..
فلا يسامح إنسان في خطاء أخطأه في حق نفسه أو أمته مع سلامة ملكة(الوعي والتعقل)لديه..
فما بالنا اليوم تكثر فينا التصرفات غير الواعية مع وجود ملكة(الوعي والتعقل) فيمن يمارس هذه التصرفات؟ ما بالنا نتصرف تصرف المجانين مع امتلاكنا للعقول الواعية المستقرة؟
هل رفع الدين ضابط وجوب (الوعي والتعقل) في ممارسة ظاهرة التعايش والإعمار للأرض؟ أم أن هناك قوة خفية عابثة تريد أن تسلبنا هذه الملكة لكي لا تقوم لنا حضارة راشدة..؟
قد تكون هذه القوة الخفية استجابة لنزغات شيطانية حجبت عنا نورانية (الوعي والتعقل)..وأرى أنه لن يزيل هذه النزغات إلا تذكر جاد..قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
وقد يصاحب هذا النزغ الشيطاني عدو بشري يتربص بنا الدوائر لكي لا تشرق شمس حضارتنا الراشدة فتنير ظلمات العالم وتكشف أقنعة الخداع والدجل..وقد حدد المولى تع إلى لعباده عدوهم المتربص بهم من زمن بعيد حينما قال: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69>.
وحينما شاهد بغاة الضلال الشمس تشرف على الإشراق بنور هداها على البسيطة أخذ يفكر شَاس بن قيس اليهودي وَكَانَ شَيخا عظيم الْكفْر شَدِيد الضغن على الْمُسلمين شَدِيد الْحَسَد لَهُم.. نعم راح يفكر حينما رأى نفر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وآله وَسلم من الْأَوْس والخزرج فِي مجْلِس تسوده الألفة والمحبة.. فَقَالَ: قد اجْتمع مَلأ بني قيلة بِهَذِهِ الْبِلَاد وَالله مَا لنا مَعَهم إِذا اجْتمع ملؤهم بهَا من قَرَار.. فَأمر فَتى شَابًّا مَعَه من يهود فَقَالَ: اعمد إِلَيْهِم فاجلس مَعَهم ثمَّ ذكرهم يَوْم بُعَاث وَمَا كَانَ قبله وأنشدهم بعض مَا كَانُوا تقاولوا فِيهِ من الْأَشْعَار وكَانَ يَوْم بُعَاث يَوْمًا اقْتتلَتْ فِيهِ الْأَوْس والخزرج وَكَانَ الظفر فِيهِ لِلْأَوْسِ على الْخَزْرَج..فَفعل ..فَتكلم الْقَوْم عِنْد ذَلِك وَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا ..حَتَّى توَاثب رجلَانِ من الْحَيَّيْنِ على الركب أَوْس بن قيظي أحد بني حَارِثَة من الْأَوْس وجبار بن صَخْر أحد بني سَلمَة من الْخَزْرَج فَتَقَاوَلَا ثمَّ قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: إِن شِئْتُم - وَالله - رددناها الْآن جَذَعَة..وَغَضب الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا وَقَالُوا: قد فعلنَا:السِّلَاح السِّلَاح..مَوْعدكُمْ الظَّاهِرَة وَالظَّاهِرَة الْحرَّة..فَخَرجُوا إِلَيْهَا وانضمت الْأَوْس بَعْضهَا إِلَى بعض ..والخزرج بَعْضهَا إِلَى بعض على دَعوَاهُم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة.. فَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج إِلَيْهِم فِيمَن مَعَه من الْمُهَاجِرين من أصحابه حَتَّى جَاءَهُم فَقَالَ: يَا معشر الْمُسلمين الله الله أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة وَأَنا بَين أظْهركُم! بعد إِذْ هدَاكُمْ الله إِلَى الْإِسْلَام وأكرمكم بِهِ وَقطع بِهِ عَنْكُم أَمر الْجَاهِلِيَّة واستنقذكم بِهِ من الْكفْر وَألف بِهِ بَيْنكُم ترجعون إِلَى مَا كُنْتُم عَلَيْهِ كفَّارًا..!! فَعرف الْقَوْم أَنَّهَا نزغة من الشَّيْطَان وَكيد من عدوه لَهُم ..فَألْقوا السِّلَاح وَبكوا وَعَانَقَ الرِّجَال بَعضهم بَعْضًا ثمَّ انصرفوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَامِعين مُطِيعِينَ قد أطفأ الله عَنْهُم كيد عَدو الله شَاس..
أراد عدو الله شاس إشاعة الفتنة ..وإثارة الشغب ..وتنحية عامل (الوعي والتعقل)لكي تأكل الحرب الطاحنة إخوة خرجوا من بطن واحدة(الأوس والخزرج)وعاشوا على أرض واحدة ..وقد نجح في ذلك سلفا وطالت حرب (بعاث) التي غيب فيها عامل(الوعي والتعقل)حتى أعادهم رسول الله إليه فحينما رأى تلك الشمس شارفت على الإشراق..حاول أن يبدد نورها (بشاب اصطنعه لذلك ودربه وحنكه) ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان له بالمرصاد ...
فهل ستقف أمتنا في وجه شاس المعاصر بالمرصاد...كما وقف في وجهه رسول الله...؟ وهل ستحيى فينا ركيزة (الوعي والتعقل)لتشرق على عالمنا شمس الحضارة الراشدة؟؟
وليعلم كل من يتصرف بغير (تعقل ووعي)من أبناء المسلمين في أي بلد كان أنه يعد حجاب كثيف يحجب شمس الفضيلة والنور وشمس الحضارة الراشدة حضارة (الوعي والتعقل).

زر الذهاب إلى الأعلى