لنصل إلى الحقيقة يجب أن نتلمس كل أشيائها ولو خارج أفلاك المعقول. بالنسبة لي، يجب أن يكون هذا الحس حاضرا كلما مرت كلمة "أمريكا" ببعض حواسي الخمس، ويجب أن تكون كل الأجوبة التي تردني حولها غير كافية لإقناعي.. لماذا؟ لأنها أمريكا التي تأكلنا بأصابعنا العشرة!!
قد يكون الدور الأمريكي في المنطقة العربية المعادي الكثير من قضايانا خلال خمسة عقود من بروزها كقوة مسيطرة بديلة عن القوى التي رحلت عن هذه الأرض، هو مبعث ذلك التوجس وما تخفيه سياسة هذه الدولة، وكذا البغض الذي تبديه الأغلبية العربية والعالمية تجاهها، وقد ازداد ذلك الشعور مع تجليها كحاكم رديف لأي حاكم عربي، خاصة في سنوات ما بعد سقوط بغداد عام 2003م، وسيطرتها المطلقة على كل تفاصيل ما يجري في هذه المنطقة أثناء وبعد ربيع ثورات 2011م.
لقد أصبح باستطاعة الولايات المتحدة-اليوم- تحقيق ما لم تستطع تحقيقه في المنطقة منذ عقود، وهذا أمر ليس يجهل حقيقته إلا غشيم، فقواتها العسكرية التي تتراص بانتظام في أراضي دول عربية كثيرة جبنا إلى جنب كتراص أسنان حكام تلك الدول، بعدما فتحوا لها أذرع الترحاب والأحضان الدافئة؛ يجعلها تبلغ غاياتها بكل يسر وبأقل ما يكلفه أي عمل عسكري قادم من وراء الحدود.
يمثل الوجود العسكري الضخم في المنطقة خطوة متقدمة في طريق التحضير للحرب التي تتوقعها الولايات المتحدة الأمريكية، وأعني بالحرب-هنا- حرب العرب مع إسرائيل؛ إذ لا يمكن لأي حاكم عربي مهما بلغت قوته ومهما بلغ الالتفاف الشعبي حوله في ظل إحاطة هذه القوات بالميدان الاستراتيجي للمعركة، أن يطلق صاروخا واحدا أو يزجي طائرة حربية واحدة باتجاه تل أبيب أو أي مدينة في الأراضي المحتلة.
أما تهديد العرب بإيران، وأن ذلك التواجد إنما هو لحمايتهم منها؛ فذلك هو الحق الذي يراد به باطلا!! وعلى افتراض أن خطرا إيرانيا يحدق بتلك الدول الهلامية حقيقي-وهو كذلك- فما المانع من أن تتقوى تلك الدول عسكريا بمساعدة الولايات المتحدة دون تواجدها العسكري، وهو ما سيمكنهم من الوقوف في مواجهة الأطماع التي تتطلع إليها أنظمة التوسع في إيران، وإن كانت أنظمة إيران بهواجسها التوسعية إنما يأتي بعضها كردة فعل على التنامي الأجنبي في مياه الخليج العربي وعلى أرض تلك الدول الهلامية.
لكن، هل اليمن بعيدة عن مثل ذلك التواجد العسكري وخطره؟ قد نكون مخطئين إن قلنا إجمالا: نعم، أو قلنا: لا. لنسأل أنفسنا عن قوام الجنود المارينز الذين حلوا ديارنا غير مرغوب فيهم مع وقوع أحداث السفارة الأمريكية في سبتمبر الماضي 2012م، التي كانت مدبرة لمثل هذا الأمر-أمريكيا ومحليا- وكيف قيل للرأي العام اليمني: إنهم جاؤوا لمهمة محددة ولمدة مؤقتة!!
في الغالب، تقوم مثل هذه القوات بمهمة التدخل السريع، وهي-على صغرها- تمثل في بلد مضطرب كاليمن رأس جسر ونواة لقوة أخرى متوقعة مهمتها الإسناد والحسم في أي اضطراب سياسي عسكري محتمل، وأقل دور تؤديه، هو ضمان خروج أقوى حلفائها منتصرا على خصومه، أو تطويع المنتصر لسياستها التي تسعى لتحقيقها؛ ومن هنا، وعلى قدر الخطر المتوقع في اليمن في حسابات الولايات المتحدة، أحسب أن مجيء تلك القوات كانت مُفتتحا لقوات أخرى دخلت البلاد والجميع في غمرة الجدل السياسي اللاهي، وعند حسم ذلك الموقف، سيكون الحاكم أمريكيا بلسان يمني.
هل سمعتم عن حالة الشفقة التي بدت غريبة ومفاجئة من قبل رسل أمريكا تجاه جزيرة سقطرى؟ وكيف أن تلك الشفقة باتت تخفي خلف ظهورها الكثير من الأغلال التي ستجعل هذه الجزيرة خارج السيطرة اليمنية في السنوات القادمة؟ إن توارد أولئك الوسطاء ما هو إلا لرفع حالة الحرج عن النظام الخجول الذي إن سمح بالتدخل المباشر للولايات المتحدة في الجزيرة فسيحدث ذلك ردا شعبيا عنيفا.
إن ما نخشاه-كيمنيين نموت جوعا على حال الحرة التي تأبى أن تأكل بثدييها- أن نكون- مستقبلا- كتلك الكيانات التي تتراص على الحافة الغربية للخليج العربي، بحيث يكون القرار مصنوعا من خارج الحدود واللاهج به ألسن عربية، والكل يحسب أنهم في عزة ونعيم مقيم..!!
فاستفق أيها الحاكم أن تُجر إلى ذلك المآل.