[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

السيد.. والمستر! (2-2)

بسبب ارتباط النسب الهاشمي بالسلطة في المذاهب الشيعية؛ صار لكلمة «السيد» قداسة في نفوس بعض القوم، والاحتراز بكلمة «بعض» أمر مهم، فليس كل الهاشميين من مجانين السيادة على عباد الله والتمايز على إخوانهم المسلمين، وهناك نسبة غير قليلة منهم؛ وخاصة الذين خلعوا ربقة التقليد المذهبي وذاقوا حلاوة الأخوة الإسلامية؛ يرفضون ممارسات التمييز والاستعلاء، والتفاخر بالنسب أو أن يجعلوا له نصيباً في التفاضل بين الناس ومؤمنين بقول الله تعالى: «إنما المؤمنون أخوة» و«إن أكرمكم عند أتقاكم»، ويتخذون لهم شعاراً في الحياة هو «الشريف من شرّف نفسه»، ويؤمنون يقيناً أن النسب لا ينفع يوم القيامة، وأن ثقل الميزان هو في العمل الصالح فقط!

التأثير السلبي لارتباط النسب بالسلطة يمكن ملاحظته في تاريخ بعض الدول والحركات في بلاد المسلمين، فكم سفكت من دماء الهاشميين وغيرهم في الصراع على السلطة، ولم يقتصر سفك الدماء على خصوم الهاشميين فكم سفك من دمائهم بأيديهم أنفسهم، ولم يتورعوا عن قتل بعضهم بعضاً.. ولم يتورعوا عن التآمر ضد أنفسهم؛ فتآمر الأب ضد ابنه، والابن ضد أبيه، والأخ ضد أخيه وضد أبناء عمه، وضد أبناء سلالته الذين يعلّمون الناس أن حبهم وتبجيلهم دين بينما هم لا يتورعون عن قتلهم، ودس السم لهم، وتشريدهم، وسجنهم دفاعاً أو طمعاً في السلطة! وقد تجسّدت كل هذه المساوىء «الشريفة» خاصة في تاريخ أئمة اليمن طوال تاريخهم الأسود عليهم وعلى اليمنيين!

كان الهوس بادعاء الشرف في تاريخ أئمة اليمن يبدو مضحكاً بعد أن صارت حياة معظمهم وممارسات دولتهم لطخة سوداء في جبين الإسلام رصّعت تاريخ اليمن بعاهات من السفاحين والقتلة والتكفيريين باسم الانتساب إلى البيت النبوي الشريف.. وصار الشرف عنواناً أو لصقة يلصقونها على كل شيء؛ فهناك المقام الشريف والحرس الشريف والديوان الشريف والقيد الشريف والخط الشريف، وربما لو طال بهم العهد لسمعنا عن الكهرباء الشريفة!

ولأن السلطة ليست حكراً على سلالة واحدة في الفكر السني؛ فالسيد السني كان يكتفي عادة بالمميزات الاجتماعية مثل: التقديم إلى مائدة الطعام، وفي الصلاة، وتقديم فروض الاحترام له كتقبيل اليد أو الركبتين.. إلخ مظاهر التقديس الأجوف التي سرعان ما أذهب الزمن معظمها. أما في الفكر الشيعي فالنسب هو طريق للوصول إلى العرش والحكم؛ ولذلك يحرص مجانين السلطة فيهم على إبقاء الأساس المذهبي لتميزهم بالسيادة الموهومة حياً في النفوس، ويورثونه للأبناء والأحفاد، ويجعلونه ديناً لدى الأتباع: فهم أصل الدين ومصدره الموثوق، ولهم حق إلهي في الحكم والسيادة على الآخرين إلى درجة جعلت رمزهم ومحيي مذهبهم في اليمن يرفض تفسير قوله تع إلى «إنما المؤمنون أخوة» بالمعنى الواضح فيها، ويؤوّلوها تعصباً لمبدأ «أنا خير منه» بأنها نوع من المبالغة فقط!

ويحتفظ تاريخ اليمنيين بحكايات كثيرة عن الهوس السلالي كما تجسد آخر مرة في عهد بيت حميد الدين، ويروي القاضي عبد الرحمن الإرياني نماذج من تلك النفحات الإبليسية التي تلبست بشراً ظنوا أنهم هم وحدهم أبناء النبي مع أن الناس كلهم أنباء آدم النبي، وهو في الأخير من تراب خلق، وفي تراب يدفن، وإلى تراب يعود، ولا ينفعه يوم الدين إلا عمله، وها هو أحد أبناء الإمام يحيى يقول لليمنيين الذين امتص وعائلته دماءهم وخيرات بلادهم: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ وقد كان من عادة حكام ذاك العهد الأسود أن يستهلّوا رسائلهم إلى رؤساء العشائر قائلين: إلى خدامنا.. آل فلان!

وكم يحدثنا التاريخ في اليمن وغيرها عمن أساءوا للنسب النبوي بظلمهم وجبروتهم وجنونهم، وسفكهم للدماء الحرام، وبسوء أخلاقهم وسلوكياتهم الشاذة، بل بجحودهم بالدين نفسه، وخيانتهم للمسلمين، حتى قال الشاعر في أمثال هؤلاء:

فإن كنت من بيت آل الرسول.... فلا بد للبيت من مستراح!

•••
استخدام كلمة السيد أو الشريف في التعامل اليومي ما زال ديدن بعض ممن ينتمون للسلالة الهاشمية يحرصون عليها ويعضّون عليها بالنواجذ، وفي بلادنا عادت هذه النغمة الإبليسية ترفع رأسها من جديد مع الصعود الحوثي المدجج بالسلاح والمال ومخزون من ترهات السيادة والتعاظم وجنون السلطة باسم النبي! وحتى بعض الذين كانوا يستنكفون استخدام كلمة «أخ» لرجعيتها صاروا يترنمون وربما يتعبدون بتلفظ كلمة «السيد»، والمرء حيث يوضع نفسه، لكن ولو من باب سد ذرائع الفساد والفتنة فهناك كثيرون جداً؛ وبأكثر مما يتصور مجانين السيد؛ لن يقبلوا على أنفسهم أن يعودوا لزمن يضطرون فيه أن يخاطبوا الزميل والطفل ب«يا سيدي» لأنه أرفع وأشرف منهم بسمة ليس لهم أي فضل فيها أو كسب –على رأي فلاسفة المعتزلة والشيعة- أو جهد فضلاً عن أن يكونوا أسوأ خلقاً وسلوكاً!

ومختصر النصيحة أن يقصر من يرون في أنفسهم السيادة والشرف استخدام كلمة السيد أو الشريف على مجالسهم الخاصة وفي منازلهم وبين أمثالهم.. وأن يطّرحوها جانبا عندما يخرجون إلى المجتمع ويتعاملون مع غيرهم، وينسون أنهم أشراف أو سادة أو هاشميون من بيت النبي، ويتذكرون أن الآخرين قد يطالبونهم بأشياء خطيرة هم في غنى عنها إن وجدوهم يريدون بهذا النسب أن يحصلوا على حقوق زائدة أو مكانة متميزة في البلاد، ففي ظل الدولة والنظام والقانون يتساوى الجميع، ولا ينبغي أن يتميز إنسان عن غيره حتى بكلمة النسب لأي جهة كانت!

وبقدر ما يثير العصبويون شعور القرف في النفوس، فهناك ممن ابتلاهم الله بالنسب الهاشمي؛ وامتحنهم به ليرى أعمالهم؛ من يمنحون دنيانا نسمة التواضع وخفض الجناح، ويحيون في نفوسنا الاعتزاز بالإسلام الذي ساوى بين بلال الحبشي وحمزة القرشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، وزاوج بين زيد بن حارثة وزينب القرشية الهاشمية، ومنح العبد السابق زيد شرف أن يكون الصحابي الوحيد الذي ذكر اسمه في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.

هم كثيرون ولله الحمد، علموا وتعلّموا، وجاهدوا بالقلم واللسان والسنان أحياناً ليس دفاعاً عن عرش ملعون ولا لشهوة دنيا ولا ليستمتعوا بالناس ينادونهم بالسيد ويقبلون أيديهم وأقدامهم، بل فعلوا ذلك انتصاراً لإنسانية الإنسان وكرامته؛ كما فهموها من الإسلام النقي الخالص؛ أن يستعبده إنسان مثله أو هوى أو مجنون مهووس بالسيادة وبكلمة: سيدي!

للتأمل:
«قلب نقي في ثياب دنسة خير من قلب دنس في ثياب نقية» أبو إدريس الخولاني.

زر الذهاب إلى الأعلى