في أعقاب قيام الجيش المصري بعزل الرئيس محمد مرسي، تعهدت السعودية ومعها الإمارات العربية ثم الكويت بتقديم دعم اقتصادي لمصر وصلت قيمته إلى 12 بليون دولار أميركي. وهذا دعم كبير حتى بالمقاييس الدولية يتم تقديمه بسرعة لافتة، وخلال فترة قصيرة جداً. من ناحية أخرى، هو خطوة تتسم ببراغماتية سياسية، وسرعة المبادرة.
طبيعة هذه الخطوة وتوقيتها أثارا الكثير من الجدل، والكثير من الأسئلة أيضاً. هل كان هذا الدعم بحجمه تعبيراً عن دعم الرياض وأبو ظبي والكويت لإزاحة «الإخوان المسلمين» عن الحكم في مصر؟ أم أنه محاولة لدعم خطوة الجيش لإنقاذ الوضع المصري من حالة الانقسام والانسداد التي وصل إليها؟ كيف ستنظر الدوحة مع أميرها الجديد، الشيخ تميم بن حمد، إلى انفراد ثلاث دول من مجلس التعاون بمثل هذا الموقف الذي يتعارض تماماً مع موقفها؟ كانت قطر في عهد الأمير الأب الشيخ حمد بن خليفة تتعاطف كثيراً مع «الإخوان»، وقدمت لهم الكثير من الدعم بعد الثورة، وبخاصة بعد توليهم الحكم، وهو دعم قدّر حينها بعشرات البلايين من الدولارات الأميركية. هل ما زال الموقف كما هو في عهد الأمير الشاب؟ قد يبدو أنه كذلك، بخاصة مع التزام قناة «الجزيرة» بالموقف نفسه في تغطيتها أحداث مصر الأخيرة. لكن ربما أن الوقت لا يزال قصيراً لإحداث تغيير أو تعديل في الموقف القطري، أو ربما إعادة تموضع. مهما يكن، فإن اختلاف الدول الخليجية حول الموقف من مصر مثال آخر على عدم وجود سياسة خارجية واحدة، أو سياسة قابلة للتنسيق والانسجام لجميع دول مجلس التعاون الخليجي.
من ناحية ثانية، لك أن تتصور كيف استقبل الرئيس السوري بشار الأسد الدعم الخليجي لمصر بعد إزاحة حكم «الإخوان»، وهو الذي استبشر بسقوط هذا الحكم، واعتبره علامة على نهاية الإسلام السياسي في المنطقة. المفترض بناء على ذلك أن يستبشر بدعم الخليج لحكم جديد في مصر يبشر بنهاية هذا الإسلام السياسي. لكن الحقيقة عكس ذلك.
يخشى الرئيس السوري أن يؤدي هذا الدعم إلى أخذ مصر إلى أبعد مما كانت عليه في موقفها من نظامه، وبالتالي إلى إحكام عزلته في العالم العربي. في يوم ما، كان النظام السوري، بخاصة في عهد الأسد الأب، يتسلم مثل هذه المساعدات التي ستذهب الآن إلى مصر، وإن كانت بحجم أقل نظراً لفروقات الحجم بين مصر وسورية، واختلاف المرحلة والظروف المحيطة بها. ونحن نعرف الآن أن المساعدات التي قدمت إلى سورية انتهت إلى ما انتهت إليه من دون أي مردود سياسي على الإطلاق. استناداً إلى ذلك، وهو ليس سابقة يتيمة، من الممكن في ظل الوضع السياسي الذي يتسم بالسيولة في مصر هذه الأيام، ومفتوح على أكثر من احتمال، أن تنتهي المساعدات السعودية والخليجية إلى نهاية مشابهة لما انتهت إليه في سورية.
ومثل النظام السوري كيف ستنظر إيران إلى الخطوة السعودية الخليجية، وهي التي أعلنت رفضها تدخل الجيش المصري وإزاحة رئيس منتخب؟ كيف يمكن تفسير اختلاف موقف إيران عن موقف السعودية من عزل الرئيس مرسي؟ الأرجح أن إيران متوجسة من المؤسسة العسكرية المصرية. فهي مؤسسة أُعيد تشكيلها طوال أكثر من أربعين سنة خلال حكم كل من الرئيس أنور السادات والرئيس حسني مبارك. وكلاهما كان على علاقة متينة مع السعودية. كما كانت هناك علاقة تعاون بين هذه المؤسسة ونظيرتها السعودية. يضاف إلى ذلك أنه خلال هذه المدة تعمقت علاقة المؤسسة العسكرية المصرية بالولايات المتحدة. وأخيراً يبدو أن موقف هذه المؤسسة من إيران لا يختلف كثيراً عن موقف نظام الرئيس السابق حسني مبارك. موقف إيران الرافض لإزاحة مرسي بواسطة الجيش يعبر عن هذه الهواجس، وليس عن مبدأ رفض تدخل العسكر في الحكم. لأن طهران تدعم الحكم العسكري في سورية بكل ما تملك، وفي شكل مكشوف. كانت إيران تعمل جهدها لكسب مصر في عهد «الإخوان»، أو على الأقل لجعل موقف القاهرة أقل عداء للنظام السوري، وأكثر قبولاً لرؤيتها هي حول المخرج المطلوب للأزمة السورية. وقد بدا حينها أن طهران حققت بعض التقدم في هذا الاتجاه عندما قدم محمد مرسي مبادرته بتشكيل لجنة رباعية لحل الأزمة السورية تتكون من السعودية ومصر وتركيا وإيران. وقد انسحبت السعودية بهدوء من هذه اللجنة بعد اجتماعها الأول. ثم جاء عزل مرسي ليخلط الأوراق من جديد بالنسبة إلى إيران. وأعقبت ذلك بسرعة لافتة خطوة المساعدات السعودية الخليجية، وهي خطوة استباقية تهدد بخطف الموقف المصري بعيداً من تمنيات طهران. هنا تبرز مصر، إلى جانب الشام والخليج العربي، ساحة أخرى للصراع السعودي- الإيراني في المنطقة.
من هذه الزاوية قد لا يكون موقف الرياض من «الإخوان» تحديداً هو العامل الأهم، أو الوحيد وراء مسارعة الرياض لدعم خطوة الجيش بإزاحة مرسي. ربما أن هذا موقف الإمارات، لكن ليس بالضرورة موقف السعودية. يجب أن نتذكر أن السعودية تعهدت في عهد مرسي بتقديم مساعدات تصل إلى ثلاثة بلايين دولار أميركي. يرى الدكتور رضوان السيد في مقالته في صحيفة «الشرق الأوسط» نهار الجمعة الماضي أن هناك علاقة خفية وقوية ل «الإخوان» مع إيران. ومن ثم يمكن القول إن خطوة الرياض كانت لدعم مبادرة الجيش بقطع الطريق على هذه العلاقة من الهيمنة على مصر. لكن لماذا لا يكون الأداء السياسي السيئ لمرسي في الحكم، ومصر تمر بحالة ثورية غير مستقرة، أدى إلى صدام الشرعية الدستورية مع الشرعية الثورية، وهو صدام انتهى بحالة انسداد سياسي استغلها الجيش للانقلاب على مرسي، بخاصة أن الأخير لم يكن مرناً في تعامله مع الموقف.
قبل تدخل الجيش كانت مصر تبدو بالنسبة إلى الرياض في حالة عدم استقرار خطيرة. خسرت الرياض كثيراً بسقوط بغداد، وانهيار سورية. وهي لا تحتمل أن تنزلق مصر أيضاً إلى حالة عدم استقرار قد تطول وتخرجها من التوازنات الإقليمية تماماً، وتحولها بالتالي إلى ساحة لتدخلات إقليمية ودولية. وهذا سيؤدي في نظر الرياض إلى فوضى إقليمية سيكون عليها بمفردها مواجهتها، ومواجهة تبعاتها. بهذا المعنى تصبح المساعدات المالية أقل كلفة مما قد يحصل من دونها.
من الواضح أن مصر تفتقد طبقة سياسية ناضجة ومحترفة. ولذلك لم تكن هناك حلول سياسية لكل محطات الانسداد السياسي التي مرت بها مصر منذ سقوط حسني مبارك. وهذا إلى جانب سوء أداء «الإخوان» في الحكم وميلهم إلى الإقصاء، وقبل ذلك بروز حركة الشباب التي فجّرت الثورة، تكون مصر قد دخلت حالة ثورية مستعصية أطرافها: طبقة سياسية فاشلة تنتمي إلى مرحلة ما قبل الثورة، شباب ثورة من دون تاريخ، ولا يملكون قيادة أو تنظيماً قيادياً، و «إخوان» يتمتعون بشعبية كبيرة لكن من دون تجربة في الحكم. في هذا الوضع برزت المؤسسة العسكرية باعتبارها المؤسسة الوحيدة القوية والمتماسكة التي تستطيع إيجاد وفرض مخارج لكل حالة انسداد. من دون هذه المؤسسة، وفي الحالة التي هي عليها الآن، ستكون مصر في حالة مشابهة للفوضى التي انتهى إليها العراق في ظل الاحتلال الأميركي، وتفكيك مؤسسته العسكرية. وإذا كان النفوذ الإيراني تسلل إلى العراق من خلال الفوضى السياسية، والتنظيمات الشيعية التي جاءت مع الاحتلال، ألا يمكن أن يتكرر الشيء نفسه في مصر؟ من هنا، فإن الاستقرار في مصر من وجهة نظر الرياض، بخاصة بعد سقوط العراق وسورية، لم يعد مصلحة مصرية فقط، بل مصلحة سعودية، وقبل ذلك وبعده مصلحة إقليمية بامتياز.
لكن على رغم كل الاعتبارات السابقة، يبقى السؤال: كيف ستكون عليه العلاقة بين السعودية ومصر بعد الخطوة السعودية؟ هل تنطوي هذه الخطوة على شيء من المغامرة؟ خلال المرحلة الانتقالية الحالية، وهي الثانية بعد الثورة، وبعد الدعم المالي السخي، ستكون علاقة القاهرة بالرياض ودول الخليج العربي مستقرة، بل من الواضح أنها ستتسم بدرجة كبيرة من الود والتعاون. لكن الأمر ليس بالوضوح نفسه بعد نهاية المرحلة الانتقالية. ستشهد هذه المرحلة ثلاثة استحقاقات كبيرة سيتوقف على نتائجها تحديد طبيعة النظام السياسي لما بعد الثورة، وخريطة التحالفات والتوازنات داخل هذا النظام، والطبيعة التي ستستقر عليها علاقات مصر الإقليمية والدولية. وهذه العمليات هي: الاتفاق على دستور جديد، وانتخابات برلمانية جديدة، ثم انتخابات رئاسية جديدة أيضاً. وهذا طبعا على افتراض أن المرحلة الانتقالية ستمر بسلام، ولن تطول كما يتمنى البعض بأكثر من ثمانية أشهر.
وعلى افتراض أن هذه المرحلة مرت من دون حالات انسداد أخرى، ولم تطل بأكثر مما هو متوقع، ستكون مصر في صورة مختلفة عما كانت عليه قبل الثورة. على الجانب الآخر ستكون السعودية، على الأرجح، ومعها بقية دول مجلس التعاون، على صورتها القديمة التي عرفها العالم بها. كيف سيكون أثر هذا التغير لدى أحد طرفي العلاقة، وانعدام التغير تقريباً لدى الطرف الآخر، على صيغة هذه العلاقة ومتانتها؟ ولماذا تظل المساعدة المالية هي الآلية الأهم في السياسة الخارجية السعودية حتى في هذه المرحلة؟ رأينا نتائج هذه الآلية في العراق واليمن والشام. هل يمكن أن نرى النتائج نفسها في مصر أيضا؟ للحديث بقية...
* كاتب وأكاديمي سعودي