تزخر مسيرة الدكتور عبدالغني علي، بكل ما يجلب الاعتزاز به، حيث أراد أن تكون الثورة كياناً بمعنى تطوري لا العكس. إنه يحتل موقعاً ممتازاً في مدونة 26 سبتمبر على الرغم من كل التغييب الجاحد الذي تعرض له. والحاصل أنه توفي مكموداً وغريباً في 2 أكتوبر 77.
بينما كان قد انعزل الحياة السياسية، بمقابل أنه كان قبل ذلك واسع الصيت من ناحيتي السمعة المهنية والاجماع على نزاهته وكونه صاحب مشروع رفيع المستوى لا مجرد شعارات.
قال عنه الاستاذ عبدالله البردوني: من ذا يستطيع أن يقول هذه عمارة عبدالغني علي.. أو هذه مزرعة عبدالغني علي.. أو هذه أرصدة عبدالغني علي.. لقد خرج من المناصب نقياً كخروج الامطار من ضمائر السحب.. أنه الرائد المخضرم.. الأنموذج الذي لم نحتذِ حذوه مع الأسف.
***
إن عبدالغني علي -الذي تهل علينا ذكرى رحيله الخامسة والثلاثين بعد ايام قلائل- كان على رأس أهم قيادات ثورة سبتمبر المدنيين الديناميكيين النوعيين. وأما في الفترة من 1962 حتى انقلاب نوفمبر 1967، كان وزير الخزانة -المالية والاقتصاد والتموين- الاعلام وشؤون الجنوب، اضافة إلى كونه المؤسس وواضع اللبنات الاولى لأهم المتطلبات الاقتصادية للدولة الوليدة التي كانت بلا إرث سابق من هذه الناحية.
الحقيقة أنها كانت مرحلة تأسيسية فارقة وشاقة، كما كانت أكثر تعقيداً في وطن يسوده التخلف بحيث أن أكثر ما يحتاجه إنشاء الاساسات التحديثية لبنية الدولة وتدريب الكوادر وتأهيلها كأكبر هموم عبدالغني علي تلك الفترة.
ومن أبرز المؤسسات التي ساهم رجل الدولة المتطلع إلى يمن حديث في قيامها والإعداد لها آنذاك: لجنة النقد -هيئة الرقابة - المعهد المالي- الجمارك- الضرائب- بنك الانشاء والتعمير- اللجنة الاقتصادية العليا -مؤسسة القطن- شركة المحروقات- المكتب الفني -الخطوط الجوية- التبغ والكبريت -التجارة الخارجية-صناعة الادوية.. فضلاً عن شركات ومنشآت الملح وصك النقود واسمنت باجل ومطارصنعاء الجديد والتأسيس لجامعة صنعاء والبنك المركزي والتأمين والنقل البحري وتسويق البن ...إلخ.
***
يُعد عبدالغني علي احمد أول من حاز على درجة الدكتوراة في الشمال إلى جانب الدكتور عبدالرؤوف رافع الذي مات في حادث سقوط طائرة قبل الثورة في مهمة رسمية. وفي نشاطه الحزبي السري كان المسؤول الأول لاتحاد الشعب الديمقراطي في الشمال الذي كان عبد الله باذيب مؤسسه ومسؤوله الأول في الجنوب كأول تيار ماركسي في اليمن والجزيرة والخليج «أهم الفصائل اليسارية التي اسست الحزب الاشتراكي اليمني لاحقاً في العام 78».
إبن منطقة الأعروق الذي درس في عدن، وحصل الثانوية على حساب والده من حلوان، كما نال ليسانس الحقوق في القاهرة بعد إقرار الإمام التحاقه ببعثة الأربعين الشهيرة نظراً لنبوغه؛ وفي مصر عمل مترجماً في السفارة السوفيتية لفترة، ثم حصل على منحة للدراسة العليا في أمريكا فنال ماجستير المال والاقتصاد ثم الدكتوراه 56-75.
عاد للوطن بعد هذا المشوار المشرف والحافل وحاول باكراً اصلاح الاوضاع من خلال حث الامامة على التطوير والتحديث والانفتاح ومجاراة العصر. كان يقابل بالاحترام من كل الاطراف حينها وبنى علاقات طيبة وناصحة أمينة مع الحسن والبدر، بينما كانت رؤاه اقتصادية عالية تؤسس للتغيير السياسي المنشود.
كذلك عمل صاحب الروح الخيرة والنيرة في ما كان يسمى بيت المال ولجنة الانعاش الاقتصادي حيث كان يامل بإمكانية إحداث نقلة ادائية في حكم الامامة تنعكس على معيش الناس ووضع البلد، وفي تلك الفترة، كان وراء مشروع ميناء الحديدة ومصنع الغزل بمساعدة من السوفييت إضافة إلى شق طريق الحديدة صنعاء بمساعدة الصين الذي اعتبر أول شريان حيوي واستراتيجي لربط البلاد ببعضها وكان من ابرز مقومات نجاح الثورة حيث انتقلت عبره المؤن والاسلحة والإمدادات.
بالتاكيد كان عبدالغني علي يرى للسياسة من خلال الاقتصاد، فيما كان نابهاً وهو يستوعب كل انعكاسات مشكلة الفقر وبنية الدولة المتدهورة في إعاقة عملية التطوير المنشودة للدولة والمجتمع.
والحاصل أن الكثير من الذين أُرسلوا للتعليم في الخارج لبنان ومصر والعراق في اربعينيات القرن الماضي عادوا بلا أي تاثير حقيقي، عدا من كانوا في السلك العسكري الذين كانوا من أبرز صناع ثورة سبتمبر، لم تكن هناك اسماء نوعية في تخصصاتها ووعيها واعلائها التنموي على السياسي والمهني على المناطقي والطائفي مثلاً إلا قلة على راسهم عبدالغني علي احمد ناجي. أثناء دراسته في مصر انضم لليسار، ويكشف الدكتور أحمد القصير أن عبدالغني علي تولى مسؤولية قيادية رفيعة في فرع الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني «حدتو» بالقاهرة اثناء اعتقالات تعرضت لها قيادتها في ظل ظروف العمل السياسي السري العصيبة ما يعني -وهو غير المصري- نيله ثقة كبيرة لدى يسار مصر في تلك الفترة المبكرة، وبالمحصلة تراكمه بالخبرات والتجارب.
وقبل الثور وفي مرحلة الاعداد لها كان عبدالغني علي أبرز من يحاول إدارة الحالة الاقتصادية بمسؤولية المتاحات الموجودة وعزيمة الارتقاء بها في ظل ظروف قاسية لا تبشر بأي تغيير. ومن أقواله التي تكشف جوهره الاتساقي مع جذوة المبادئ وروح الوطنية عموماً: «إذا كان الوطن متقدما فهو في غنى عنا، اما مادام على هذه الحال فهو احوج ما يكون إلينا.. يتبجح البعض بتقدمه وبتخلف الشعب.
فإذا كان هذا متقدماً فليقطع شبراً في - من طريق التقدم الشعبي» على أنه رجل العلم، رجل التنوير، الكادر الطليعي المتميز، المتقن لعدة لغات بجدارة، العالم التخصصي النادر وجوده في بلد كاليمن حينها. ويذكر اللواء عبدالله جزيلان الذي تولى الكلية الحربية قبل الثورة وعضو مجلس القيادة بعدها جلة صفات زاخرة بالمسؤولية والاقدام والتفاني تمتع بها صديقه عبدالغني علي الذي كان اقرب اصدقائه إليه وأهمهم حميمية منذ ايام القاهرة.
كذلك كان عبد الغني علي على التقاء كبير مع الشخصية الوطنية المعروفة عبدالغني مطهر، كما كان بصلة واضحة مع تنظيم الضباط الاحرار. ثم بمجلس قيادة الثورة. وعلى وجه الخصوص كان أول همزة وصل بينهم ومصر عبدالناصر. بعد الثورة كان الدكتور عبدالغني علي رجل السلال الأول، فيما اصطدم مع زبانية وأزلام اللادولة والانحطاط ولم يكن يستسيغ حالات المؤامرات والضغائن على الاطلاق بشهادة كل من عرفوه.
ولئن كان التسامحي المتفرد والمتوازن في أحلك الظروف، فقد كان قائداً نبيلاً يشهد له جميع رفاقه واعدائه أيضاً..
إنه ببساطة على رأس كوكبة من الخريجين الجدد، حاول بكل عزيمة وأمل من أجل أن تدور العجلة المربعة للوضع اليمني الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ومن مهامه العسيرة عقب الثورة مباشرة تحصيل مقتنيات وذهب وأموال الإمام أحمد في الخارج والداخل وتوريدها للدولة حيث اسس بها بنك الانشاء والتعمير إضافة إلى تنظيم أملاك الدولة نفسها وإنشاء أول موازنة.
ومن المهام الجليلة إقراره العملة الوطنية بعد تأن وصبر لمدة شهور من الدراسة والبحث حتى لا تتأثر الأوضاع المالية والاقتصادية المتدهورة أصلاً إلى ما هو أسوأ بفعل التسرع والتطرف في إنهاء التعامل الفجائي بالماريا تريزا وهي العملة المتداولة التي كانت تسمى بالريال الفضي الفرنصي وهي عملة نمساوية صكت لأول مرة في عام 1680 ودخلت إلى اليمن عام 1924.
معروف ان العملة رمز سيادي للبلد خصوصاً مع التحولات للوضع الجمهوري، ما بالكم وانه لم يكن هناك أي نظام نقدي وعملة وطنية إلى جانب الفرنصي إلا البقشة الإمامية.
والشاهد أن حقبة ما بعد ثورة سبتمبر لم تكن مدنية حيث كانت خاضعة لسطوة التخلف. بينما كان عبدالغني علي يكابد من أجل إحداث ثغرة في الجدار ليطل النور.
إلا أن عبدالغني علي كان مع ضرورة تقوية السلطة الاقتصادية للدولة كي تكون دولة، ما يعود بالنفع على الاغنياء والفقراء على السواء، وإحدث تغيير جذري في البنية الطبقية للمجتمع لصالح قيام دولة ينبغي انها كانت تنوي النهوض لصون الصالح الوطني العام.
وهكذا سرعان ماتعززت الثقة الشعبية بالعهد الجديد حيث تم القضاء على التضخم واستقرار القوة الشرائية للريال الجمهوري، كما استقر سعر الدولار بثلاثة ريال.
ومن أبرز تطلعاته وهمومه آنذاك تشجيع الرأسمال الوطني وفتح الاكتتاب للمساهمة في المؤسسات الوليدة إلى جانب دأبه على إقامة مستوى امان اقتصادي لحض المغتربين على التحويلات والاستثمار، وتشديده على ترشيد الصرف من الموازنة والاعتمادات وعدم الافساد أو اختراق النظام المحاسبي على ان اسوأ ما كان يعيقه عن تنفيذ طموحاته الصائبة في مرحلة حساسة كتلك هو عدم وجود كادر تنفيذي خبير، والصحيح أن مهمته كانت بالغة العبء حيث كانت الجمهورية الطرية تخوض حروبها مع الجانب الملكي الذي لم يهدأ وحيث كانت تصدعات الصف الجمهوري تتسع للأسف..
لكن إنماء قيمة العدالة الاجتماعية ظلت على رأس أولوياته، كما أن سمته الثقافية النوعية جعلته ينظر من زاوية عميقة للخلل اليمني الراسخ في السياق.
بالتالي كان الدكتور عبدالغني علي ضد الاستخدام الاعتباطي لروح الثورة دون ان تتم خلخلة المفاهيم الرثة السائدة كما كانت تحليلاته تحفر جيداً في العوامل الاقتصادية المعيقة لتطور ونماء الشعب والوطن.
وأما لتكوين صورة اشمل عن الرجل فإننا نرى أنه مزيج من الانضباط والحيوية واحترام الذات والوفاء والبعد عن الغرور والاخلاص والتضحية والزهد والمنهجية في التخطيط والقدرة الآسرة على عقد صلات وأواصر انسانية واجتماعية مهما كان الاختلاف الفكري والسياسي اضافة إلى سعة الثقافة والجاذبية والمواءمة الصادقة بين المثال والواقع وصولاً إلى تلك الخصلة التي لا تُلمح بسهولة من الانطوائية أحياناً في شخصيته، مصقولة كما نرى بعوامل العمل السياسي السري على الارجح.
***
للأسف تعرضت المرحلة الثورية التي عاشها عبدالغني علي للتشويه والتجاهل، ولذلك تم إغفال دوره الريادي كثيراً. ويمكن الاستنتاج ببساطة إلى أنه باقصاء عبدالغني علي اصيب مشروع التحديث بالاضمحلال والضمور. فلقد تسلط رجالات 5 نوفمبر على الحكم وجاؤوا بأعوانهم في الوظيفة وجرت عملية ممنهجة لإقصاء الكوادر والاستهزاء مما راكمته من وعي وليس انتهاء باعتبار الدولة وسيلة للاثراء والكسب غير المشروع كما هو حادث..
لذلك فإن العودة لاستلهام تجربة شخصية رحلت قبل أكثر من ثلاثة عقود نراها ذات أهمية الآن كون عبد الغني علي شخصية ملهمة لم تنصف كما ينبغي. بل أنه يتعين اخذ تجربة عبدالغني علي حالياً بعين الاعتبار حيث كان اكثر تقدمية في ظروف سيئة للغاية مقارنة وانحطاط عقل الدولة اليوم رغم أن الظروف مواتية لإحداث انعطافة فائقة في المسار المكرس.
وإذا أمكن الوصف، تتلذذ الدولة بحسها التنموي والاقتصادي البدائي بعد 51 سنة على الثورة، فيما شهوة الكسب ولا ضمانات الدولة قادتا إلى تعرية المجتمع وتجريف الفرد بالاستلاب حيث تركزت السلطة المالية في جماعة مصالح سخرت الدولة لصالحها وعرقلت وأبادت كل بارقة لإنعاش الدولة..
وبالمقابل تمت ممارسة التجارة بلا ضمير حتى لم تترجم الدولة مصالح مواطنيها في الاجور والدخل والرقابة على السوق فضلاً عن تراجعها في تقديم الخدمات العامة وتقوية أمل الفرد بالدولة لا العمل الممنهج على إضعاف هذا الأمل من قبل قوى الهيمنة والنفوذ ومختلف اشكال الاستغلال وتدمير ما تبقى من سياسات اقتصادية شبه كفوء لها أن تجلب الرخاء لو تم تمكين العقول الحكومية العلمية والمهنية غير التقليدية وغير الزائفة.
***
رحم الله عبدالغني علي الذي مات غريباً ومكموداً في وقت مبكر وما يزال الجحود وظلام الذاكرة ميزة هذه البلاد التي لم تكرمه بعد، فيما تناوب على إدارتها طوال 50 عاماً حفنة من الانتهازيين والاوغاد والاغبياء والمدمرين والمخربين لأي بارقة تحولات تنموية ومالية واقتصادية حقيقية.
ثم إنه في هذا الزمن العجيب ليس عجيباً كمثال أن فني صواريخ وزارة المالية لا يعرف تماماً من هو عبدالغني علي.. «المعلومة وصلتني من مصدر موثوق هناك للاسف وما زلت مشدوهاً وغيرمصدق».
وللانصاف: يظل التقدير لروح القائد اللواء عبدالله جزيلان رفيق دربه الوفي حتى آخر لحظات حياته، كما لروح الرئيس إبراهيم الحمدي ولأرواح رفاق عبدالغني علي في الجنوب كونهم ظلوا يتواصلون معه وهو يكابد حسرات منفاه بالقاهرة حتى وفاته في 2 اكتوبر 77، حيث رحل وعليه ديون للشقة التي كان يستأجرها وهو الحائز على وسام النيل من جمال عبدالناصر زميله في مؤتمر باندونغ في العام 56، والذي وطد صلات اليمن به وكان همزة وصل حقيقية بين اليمن ومصر بداية الثورة.
كان الحمدي يأمل أن يدعمه في مشروع التصحيح بمقابل أن رفاقه في الجنوب كانوا يأملون الاستفادة من خبراته في إنهاض اقتصاد الدولة هناك..
لكن المرض الذي حمله من بلد الكمد حيث رحل عزيزاً ونظيفاً وملهماً ويمنياً وطنياً ونوعياً في عمر مبكر لا يملك سنتيمتر واحداً في هذه البلد.. كذلك لا أظن أن ثمة مسؤول تجري الأموال بيده من الممكن أن يتكرر بذات خصوصية ومهنية وكفاءة وطاقة ونظافة ومبادئ ولا فساد عبدالغني علي إلا ما ندر.. والرجل كان وسيظل على رأس النادرين.
***
الخلاصة: ذهب الدكتور عبدالغني علي ضحية مرض عضال أدى إلى جلطة دماغية وهو في ريعان شبابه. غير أن اليمن ما زال تقاوم بشراسة ذات المرض العضال في الأداء الإداري والمالي للعقل الحكومي حتى الآن، ماقد يؤدي في حال عدم العمل على تجذير حلم الدولة المدنية دولة المؤسسات والنظام إلى جلطة أمل اليمنيين بوطن كريم معطاء لا يخذل تضحيات الأوفياء والحالمين كما لا تستمر خيراته تذهب لجيوب الهمجيين كما هو حاصل.
***
في ظل اشتداد تكالب الجانب الملكي على الثورة وتضعضع الجانب الجمهوري و قرب حصار صنعاء تولى عبدالغني علي ادارة الاعلام وكان ايقونة تضحية من أجل الجمهورية والسلام الاجتماعي في كل سياساته التحريرية الاعلامية.
***
كان للراحل الكبير دور اساسي في تعميق النضالات الوحدوية مذ كان له الدور البارز إلى جانب نخبة هامة جداً من الطلبة شمالاً وجنوباً في تاسيس رابطة الطلاب اليمنيين الموحدة في القاهرة وحتى توليه الاشراف على شؤون الجنوب وزارياً، حيث قضية الشعب اليمني قضية تحرر من الاستبداد والاستعمار.
***
يعيش الرفيق عبدالغني علي.. يعيش الرفيق عبدالغني علي..!