[esi views ttl="1"]
من الأرشيف

إشكالية التنزيل والتأويل

هل أصبح الإسلام عامل فرقة، وخلاف بين المسلمين؟ وهل هو السبب في تخلف شعوب المنطقة سياسياَ واقتصادياً واجتماعياً، كما تطرح بعض الدوائر الأكاديمية والسياسية الغربية بشكل مستمر؟ ألم يكن الإسلام هو نفسه الدين الذي وحد مجموعة من القبائل المتناحرة، ليجعل منها مجتمعاً، كان النواة المؤسسة لأول وأكبر حضارة عربية عرفها التاريخ؟ فما الذي جرى؟ وكيف تحول عامل التوحيد والجمع والقوة إلى عامل تفرقة وخلاف وضعف؟

نظرة سريعة على عناوين الصحافة، أو موجز نشرات الأخبار تعطي صورة واضحة عن حجم الدمار المادي الحاصل، الذي يعكس دماراً مفاهيمياً أشد ضرراً من دمار الماديات في هذا الشرق الموبوء بالفرقة والصراع.

وقبل فترة نشر أحد ناشطي الفيسبوك في الولايات المتحدة صورة تختلط فيها الأعلام المحترقة على يد غاضبين مسلمين، بالمباني المحطمة، بالانفجارات، بالرهائن المختطفة، بأعداد من الملثمين يصوبون السلاح في اتجاهات مختلفة، في لوحة بشعة، أخرجت بشكل جيد، لتعطي رسالة واضحة، عبر عنها تعليق ساخر باللغة الانكليزية كتب تحتها، يقول: "المسلمون ليسوا هم المشكلة، بقية العالم هو المشكلة". ومع أن الغرض الفوبياوي من اللوحة غير خافِ، إلا أن اللوحة في جزئياتها صحيحة للأسف.

كيف- إذن- تحول الدين بما هو عامل توحد وتراحم وتآلف إلى عامل فرقة وتناحر وخلاف، وما السبب؟

هل هو الدين.. هل هو التأويل.. هل هو التطبيق؟ هل هو التوظيف السياسي والنفعي للدين.. هل هو التاريخ وتراكماته أم الجغرافيا وتصدعاتها؟ أم أنه المزج السيئ بين العرفي الثقافي والقدسي الديني.. أم ماذا؟

ما الذي يجعل الإسلام لدى فهم من الأفهام صورة لحركات التحرر الروحي والانعتاق البشري والسلام الاجتماعي، وصورة للإرهاب والتزمت وكبح الحريات لدى فهم آخر؟

ما الذي يجعل صحيفة عالمية كبرى مثل النيويورك تايمز تقول "إن االإسلام هو دين الاعتدال والتسامح مع الآخرين" في حين يعترض مؤلف مثل مياكل غابرييل على ذلك ويقول "إن الإرهابيين يطبقون الإسلام كما أراد محمد".

عندما يأتي من يقول إن الإسلام هو سبب كل ما يحدث للمنطقة وأبنائها، فسيكون الرد عليه سهلاً، بأن الإسلام كان أيضاً سبباً في نقلة حضارية هائلة لمنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. فهل النصوص التي بني عليها جسم الإسلام وهيكله الكبير تختلف عن النصوص التي يهدم بفهمها اليوم هذا الجسم؟

النص في الغالب لا يأتي تأثيره إلا من قبل تأويله، والتأويل يتعدى النصوص بالطبع ليشمل منظومة المواقف والأحداث بالتحليل والتفسير، بل إن الصورة الذهنية لنبي الإسلام تختلف بالطبع من شخص لآخر أو من جماعة إلى غيرها، هناك على سبيل المثال من لا يرى في نبي الإسلام أكثر من قائد عسكري، وهناك من يرى فيه نوراً وهدى ومحبة، وآخر يرى فيه صورة المصلح الاجتماعي والإنسان الكامل، تماماً مثلما أن هناك من يرى أن الإسلام هو السلام، ومن يرى أن الإسلام هو الإرهاب.

والإشكال ليس في منظومة النصوص المقدسة التي بني عليها جسم الإسلام، ولكن الإشكال يأتي من طرائق التأويل المختلفة، التي تتأثر حسب البنية الثقافية والاجتماعية والسياقات التاريخية، وكذا حسب البنية السيكولوجية للمؤولين.

ومعلوم أن تطبيق النصوص يأتي في مرحلة تالية لتأويلها، فالتطبيق يكون مرتبطاً أساساً بتأويل النص لا بالنص بشكل مباشر، ومن هنا تأتي خطورة التأويل في إنزال النصوص على مواقعها وتطبيقها في واقعها.

وقد أخذ المستشرقون على القرآن الكريم على سبيل المثال فكرة أنه يأمر بقتال غير المسلمين عموماً، مستندين إلى الآية 29 من سورة التوبة التي تقول: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"، غافلين عن أن الآية على اختلاف مفسريها في سبب نزولها جاءت، في ظرف تاريخي ملتبس بغبار المعارك التي شنت ضد المسلمين، لتؤكد حق الدفاع عن النفس ضد الرومان (عند بعض المفسرين) الذين أوعزوا إلى أحد عمالهم في الشام لقتل رسول نبي الإسلام إليه، وجهزوا أنفسهم لغزو المدينة، ولذا جاءت غزوة تبوك بعد نزول هذه الآية. وعلى الرغم من أن سبب الدعوة للقتال ليس موجوداً في النص، إلا أن السبب ليس دينياً، بحسب السياقات التاريخية والتأويلية. بمعنى أن الأمر بالقتال ليس لتحويل أهل الكتاب عن دينهم، وإلا لما ظل أهل الكتاب محتفظين بدينهم طوال التاريخ الإسلامي، ولكن السبب في ما يبدو سياسي، وهو يخص قتال المحاربين من أهل الكتاب (الروم) الذين تهيأوا لقتال المسلمين، أو بدأوا الحرب ضدهم، في سياقات تاريخية معينة، كما أن الأمر ليس بقتال أهل الكتاب بالجملة.

وقد حملت هذه الآية غالباً على تأويل شن الحرب على غير المسلمين عند المستشرقين، بغض النظر عن آيات أخرى كثيرة تضع هذه الآية في سياقها التأويلي المناسب، من مثل ‘ لا إكراه في الدين’، ومن مثل ‘وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين’، في دلالة واضحة على أن سبب القتال في الإسلام ليس دينياً، وأنه لا توجد حرب دينية بهذا المفهوم، وأن الأمر بالقتال ينصرف لقتال المقاتلين فقط، حسب النص ‘الذين يقاتلونكم’.

وعلى الرغم من ذلك، فليس المستشرقون وحدهم هم الذين أولوا هذا التأويل، ولكن لا بد من الاعتراف بأن بعض الذين اشتغلوا على الدرس التفسيري الكلاسيكي، أسقطوا شيئاً من سياقاتهم الثقافية والنفسية على الآية، وحملوها ما لا تحتمل، ومثال ذلك قول الكلبي عن كيفية أخذ الجزية ممن تؤخذ منه بأنه "إذا أعطى (الجزية) صُفع على قفاه"، في دلالة على إسقاط شيء من الموروث الثقافي القبلي على التأويل.

هناك أيضاً نص من السنة النبوية يقول "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات"، ولفظة "تفلات" لها معنى حيادي، كما في وصف الطعام بأنه "تافل"، أي غير مالح، واللفظة في سياق الحديث تعني أن تخرج المرأة غير مبالغة في تزينها وتعطرها، أو أن تخرج بشكل "طبيعي/محايد"، في ما يخص مظهرها الخارجي. وهو نص يمكن تقبله على أساس أن الهدف من الذهاب إلى االمساجد يختلف عن الهدف من الذهاب إلى "الملاهي الليلية"، لأن الذهاب لدار عبادة يختلف ضرورة عن الذهاب لحفلة ليلية. ومع وضوح القصد واعتداله ومنطقيته، إلا أن النص الذي ورد فيه الحديث فهم عند متأخري المؤولين على أن المرأة يجب عليها أن تذهب إلى المسجد "بثياب المطبخ، وبروائح البصل وغيره"، حتى لا تفتن المصلين بروائحها الطيية، في تجاهل واضح لآية أخرى صريحة الدلالة، تقول "خذوا زينتكم عند كل مسجد".

ولا يخفى بالطبع أن معظم خلاف طوائف المسلمين مرده إلى اختلافهم في التأويل، مع العلم أن الاختلاف في التأويل غالباً ما يكون محموداً إذا خلا من التوظيفين السياسي والاقتصادي لهذا التأويل. وقد رأينا كيف كانت الفرق السياسية الإسلامية تستدل بالنصوص ذاتها أحياناً لإثبات أحقيتها في الولاية أو الخلافة.

النص- إذن – إنما يكون بالتأويل، والدين أساساً بالتدين، أي أن العبرة بالطريقة التي يفهم بها الدين، والتوظيف الذي يأتي الدين في سياقه.

والتدين بالطبع غير الدين، التدين هو اجتهاد الفرد أو المجموعة في فهم الدين وتأويله، وإنزال نصوصه الزمانية الثابتة على الواقع الزمني المتغير، بينما الدين هو مجموعة من المفاهيم والقيم المعبر عنها بنصوص ومواقف قابلة للتأويل ولاختلاف التأويل كذلك.

الدين ثابت زماني، والتدين متغير زمني، ومشكلة الإسلام الكبرى تنبعث من النقطة التي تمثل التقاء الزماني بالزمني بطريقة لا تناسب الثابت ولا تتفق مع المتغير. ولذا تكمن الخطورة في التدين لا في الدين، أو في التأويل لا في النص أو في التوظيف لا في الوظيفة، أو لنقل إن المعضلة تكمن في المتدينين لا في الأديان بشكل عام.

زر الذهاب إلى الأعلى