[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

المستقبل الذي في انتظار اليمن (2)

لكن. قد يسأل البعض عن شكل هذه الدولة المائعة (شبه الدولة، وشبه الديمقراطية)، الملامح ‏كثيرة لهذه الدولة، إلا أنه يمكن القول أن الدولة اللبنانية الراهنة هي مثال جيد على هذه الحالة.‏

هناك دولة في لبنان، إلا أنها ليست نافذة على الجميع على اعتبار أنها دولة وعلى اعتبار أنهم ‏مواطنين، بل هي دولة فقط لمجرد أن مجموعة من القوى السياسية المستندة إلى طوائف ‏مذهبية توافقت على وجودها في حدود معينة، كمحل لتفاهماتها وبقدرات أقل من قدراتها ‏أيضا. فالجيش اللبناني هو أقل قوة وقدرة من قدرة وقوة حزب الله العسكرية مثلا..‏

هناك مواطنون في لبنان، إلا أنهم ينتمون لطوائفهم أكثر من انتمائهم لفكرة المواطنة، كما أن ‏هناك أحزابا أيضا في لبنان إلا أنها واجهات طائفية أكثر منها أحزابا مدنية تنشط بين مواطنين ‏بعيدا عن اعتبارات الدين أو العرق.‏

في هذا الواقع تمارس السياسية في لبنان، ويسمى توافق الطوائف عبر القوى التي تمثلها ‏ديمقراطية أيضا. منصب الرئيس هو للمسيحيين الموارنة ليس كل المسيحيين حتى، رئاسة ‏الحكومة هي للمسلمين السنة، رئاسة البرلمان هي للمسلمين الشيعة..‏

في هذه الحالة لا تؤدي نتائج الانتخابات التي يتم إجرائها مهما كانت مختلفة إلى واقع سياسي ‏مختلف. فرئيس الجمهورية يجب أن يكون مسيحي ماروني، وجرت العادة أن يأتوا به من ‏قيادة الجيش بتوافق ورضا كل القوى السياسية وهو المنصب الأضعف والذي يفترض أن ‏يكون أداءه توافقيا دائما.‏

رئيس الحكومة يجب أن يكون من السنة لكن التحالف الفائز بأكثر المقاعد في فارق لا يكون ‏كبيرا في العادة هو من يمكنه تسمية رئيس وزراء لرئاسة حكومة تشارك فيها المعارضة ‏بنسبة الثلث المعطل، وهذا الأخير بدعة لا مثيل له في غير لبنان. ووزراء ينتمي كل منهم ‏لتياره أكثر من انتماءه لحكومة كوحدة متجانسة وينسحب انتماءه على أداء وزارته أيضا.. فيما ‏رئاسة البرلمان هي للشيعة ومنذ كان هذا التقسيم يحتل رئيس حركة أمل نبيه بري المنصب ‏مهما كانت النتائج. لأن حزب الله لا ينازعه عليه فقط.‏

ليس الانتخابات ونتيجتها هي العامل المؤثر على هذا الواقع السياسي في لبنان الذي يتقاسمه ‏فريقان هما 8 آذار بقيادة حزب الله وحلفائه وهم خليط من الشيعة والسنة والمسيحيين، و14 ‏آذار بقيادة تيار المستقبل وحلفائه من خليط مماثل، مع تحولات طريفة للدروز بقيادة وليد ‏جنبلاط بين المعسكرين.. فالواقع الإقليمي والدولي وتجاذبه بين معسكر إيران سوريا حزب ‏الله، والسعودية أمريكا هو مؤثر أيضا.‏

بدايات التسعينات من القرن الماضي حين تم التأسيس لهذا النظام التوافقي بين الطوائف ‏للخروج بلبنان من الحرب الأهلية في اتفاق الطائف الشهير، قيل أنه سيكون انتقاليا في الطريق ‏إلى دولة المواطنة والديمقراطية و نص على ذلك في الاتفاق أيضا.‏

إلا أن طبيعة النظام وتأسيسه على هذا النوع من تفاهمات الطوائف، بعد الحرب الأهلية في ‏التأسيس الثاني وخضوع لبنان بصورة أو بأخرى لتفاهمات أو خصومات سوريا السعودية هي ‏من جعلته دائما ومستمرا منذ أكثر من عقدين على تأسيسه حتى الآن..‏

ربما يقول البعض. لكننا لسنا طوائف وأديان في اليمن كلبنان، في الحقيقة لسنا كذلك تماما، ‏إلا أن دولة ما أو نظام سياسي يتم التأسيس له تحت فكرة التفاهمات والتوافقات بين مراكز ‏قوى، في ظل هشاشة الدولة وضعفها يستمر ويتكرس بتلك الصيغة، لتمسك الأطراف الفاعلة ‏على تبايناتها الكبيرة بهذا النظام للحفاظ على مصالحها المكتسبة أو خشية الجديد القادم. ويحل ‏هو محل فكرة ووظيفة الدولة التي تظل ضعيفة..‏

فالحديث الآن عن الحاجة لنظام سياسي توافقي وإطالة أمده وتوسيعه ليشمل أطرافا على ‏اعتبارات جغرافية ومذهبية تحت دعاوي الشراكة الوطنية، هو في الحقيقة ليس من الشراكات ‏الوطنية في شيئ فهي لا تكون إلا بين مواطنين متساويين على اعتبارات المواطنة لا غير.. ‏أما هذا النوع فهو شراكات أو تفاهمات بين تيارات سياسية ومراكز قوى لا أقل ولا أكثر.‏

ليس لدينا في اليمن دولة قوية أو هي أقوى من الأطراف السياسية ومراكز القوى، كما أننا لا ‏نحضر كمواطنين أفراد وأحرار حين نمارس الديمقراطية بل نحضر كحشود عصبوية ‏لاعتبارات اجتماعية ومذهبية وحتى جغرافية تعبر عنها مراكز قوى قديمة وناشئة.‏

تسليم الدولة والديمقراطية لنظام سياسي يعبر عن تفاهمات تلك القوى، هو تكريس لتلك ‏القوى التي ستجد مصالحها في هذا النظام والذي ستحرص على ديمومته واستمراره.. في ‏مقابل المزيد من ضعف الدولة وتخلف التجربة الديمقراطية.‏

لا أقول أننا في اليمن الآن في وضع سياسي يسمح لإدارة الدولة الراهنة أو التأسيس للدولة ‏المستقبلية بعيد عن التوافق السياسي، في ظل ضعف الدولة وهشاشتها وقوة الأطراف السياسية ‏ومراكز القوى التي يمتلك بعضها سلاحا، إضافة إلى حدة المطالب السياسية الجهوية وارتفاع ‏سقف مطالبها يكون إدارة المرحلة بالتوافق هو واقع وحاجة بعيدا عن معايير الخطأ ‏والصواب.‏

فالمرحلة السياسية الراهنة هي محكومة بالتوافق، والحوار هو بالتوافق أيضا، فالحديث هنا ‏عما ستؤسس له هذه المرحلة التوافقية فهو ما سيحدد ملامح المستقبل بين التأسيس للدولة ‏والديمقراطية، أو تكريس التوافق بين مراكز القوى كبديل عنهما..‏

فالحديث عن استقلال وحيادية مؤسسات الدولة السيادية كالجيش والقضاء والوظيفة العامة ‏والإعلام على أهميتهما ليس كافيا أو ليس ممكنا تماما في ظل هيمنة مراكز القوى وتوافقها ‏على إدارة الدولة وإدارة تلك الأجهزة، إذ ثمة فارق بين تحييد الدولة ووظيفتها في ظل هيمنة ‏القوى، وبين هيمنة الدولة على الجميع وقدرتها على الجبر والقسر.‏

في الحالة الأولى نحصل على حالة مشابهة للدولة اللبنانية وجيشها الحيادي جيدا بين ‏الأطراف وضعفه أمام قوة وقدرة تلك القوى داخل الدولة، وهذا الوضع لا يشبه بأي حال فكرة ‏ووظيفة الدولة الطبيعية.‏

الهروب باتجاه الأطراف والحديث عن الفيدراليات والأقاليم، هو ليس كافيا قبل حسم فكرة ‏ووظيفة الدولة في المركز، فلن يكون الحال في الأقاليم بعيدا عما هو الحال في المركز أيضا..‏

كل الأنظمة السياسية، من برلمانية، ورئاسية، أو مختلط، أو أشكال للدولة من مركزية أو ‏فيدرالية، هي جيدة وفق الفكرة أو الحاجة المرجوة من ذلك النظام وذلك الشكل للدولة. فلا نظام ‏أو شكل دولة هو جيد في حد ذاته..‏

فللنظر لحاجتنا هنا في اليمن، فنحن نحتاج لدولة طبيعية قوية وقادرة ومهيمنة على الجميع، ‏وليس مهيمنا عليها من قبل مراكز القوى أي كانت قبلية أو مذهبية أو جهوية. نحتاج لدولة ‏مواطنة وديمقراطية..‏

أي نظام سياسي وأي شكل دولة هما من يمنحانا ذلك أو يؤسسان لذلك بالأصح، وأيهما أيضا ‏من يكرس ضعف الدولة لصالح هيمنة مراكز القوى ويقيم تفاهماتها محل الديمقراطية ‏الشعبية.‏

في تقديري يمكن لنظام رئاسي ديمقراطي، وشكل دولة بصلاحيات أكبر للأطراف، أن ‏يمنحانا ذلك. مع أن هذا النظام لن يكون بعيدا عن هيمنة القوى وتفاهماتهما في أول الأمر. ‏فهذه الهيمنة هي الواقع الآن وما سنورثه لبعض الوقت، فمثلها ليس مما يختفي فجأة، أو دون ‏تخطيط وتصميم لنظام سياسي يحقق ذلك.‏

لكن. لماذا النظام الرئاسي وليس البرلماني؟ّ!.. أظن أن معرفة طبيعة الأداء السياسي لمرحلة ‏ما بعد هذه المرحلة الانتقالية، أن تجيب عن هذا السؤال. فطبيعة الأداء هناك لن يكون مختلفا ‏عما هو الآن، من حيث هيمنة مراكز القوى وإدارة المرحلة من خلال تفاهماتها..‏

فكما لم يتمكن طرف سياسي وحده أن يحسم الأمور لصالحه الآن، لن يكون بمقدور أي ‏طرف أن يفعل ذلك لوقت قريب، تحتاج كل الأطراف لبعضها لإدارة المرحلة بعد الانتقالية، ‏وأي هيمنة لطرف ما و إن من خلال انتخابات لن يرضي بقية الأطراف، وسيفجر الأوضاع ‏عسكريا، وليس هناك دولة قوية تجبر الأطراف الخاسرة على قبول النتيجة كما يحدث في ‏التقاليد الديمقراطية المعتبرة.‏

إن كان الأمر كذلك، يقول أحدهم، ما الفارق إذا بين نظام رئاسي أو نظام برلماني، ما دام ‏النظامين يحتاجان للتوافق بين مراكز القوى لإدارة المرحلة القادمة؟!.‏

من وجهة نظري هناك فوارق وجيهة فعلا.. في نظام برلماني بحكومات توافقية تشترك فيها ‏كل الأطراف، لن يكون بمقدور كل الأطراف بناء دولة قوية بأجهزة قوية قادرة على الجبر ‏والقسر على الجميع، سيتواطأ الجميع على أن تكون محايدة فيما بينهم بالأكثر، ولكن ليس ‏فوقهم كما يفترض في دولة طبيعية..‏

في النظام البرلماني أيضا، يكرس الوضع القائم، ولا يحدث تحولات كبيرة، ودائما ما تكون ‏الحكومات ضعيفة وخاضعة لابتزاز الأطراف المشاركة، والأخطر أن يكون ذلك على حساب ‏بناء الدولة ووظيفتها كفكرة مهيمنة على الجميع.‏

الأخطر أيضا أن يحدث ذلك تحت حجج التوافق الوطني، الذي سيتحول إلى حالة دائمة، ‏وسلاح في أيدي مراكز القوى لتكريس هيمنتها ونفوذها على الضد من هيمنة ونفوذ الدولة.‏

في النظام الرئاسي بدورات محددة، سيحتاج أي رئيس قادم لتوافق القوى القادرة والفاعلة على ‏ترشيحه لدورتين رئاسيتين على الأقل، في الحالة السياسية بعد الانتقالية، إذ لن ترضى بقية ‏الأطراف أن يكون الرئيس من طرف معين.. الفارق في هذه الحالة عن النظام البرلماني هو ‏أفضلية أن تترك مسألة بناء الدولة وإدارتها لرئيس تراه الأطراف محايدا، بدلا من أن تقوم هي ‏جميعا بذلك.‏

بعد دورتين رئاسيتين، يمكن لرئيس آخر أن يحدث تحولات مهمة وكبيرة في بنية الدولة في ‏فترته الثانية بعيدا عن رغبته في فترة أخرى تحت هيمنة وترضية مراكز القوى..‏

النظام الرئاسي وإن كان توافقيا في أول الأمر، يجعل من رئيس ما مسؤول أمام الشعب في ‏بناء الدولة وإدارتها، بعكس حكومة توافقية يشارك فيها الجميع ولا أحد مسؤول عما تفعله.. ‏إرادة الفرد أيضا في النظام الرئاسي هي أسرع استجابة للأحداث منها في الحكومات التوافقية..‏

تعلق بالنظام الرئاسي شبهة الاستبداد، إلا أن ضبطه بفترتين محددتين تنفي عنه هذه الشبهة، ‏إلا أن المؤكد عن الأنظمة البرلمانية في الدول الهشة كاليمن، أنها تكرس الفوضى والضعف ‏في الدولة، هي كذلك أيضا في بعض الدول المتقدمة إلا أن قوة تلك الدول واستقرارها يقلل من ‏تلك المخاطر لكثرة سقوط الحكومات البرلمانية..‏

قد أكون منحازا للنظام الرئاسي، لكني لا أعارض أي نظام هو أفضل لبناء الدولة اليمنية ‏القوية التي نحتاج.. يمكنكم إثراء هذا النقاش..‏

الحلقة السابقة
المستقبل الذي في الانتظار..!

زر الذهاب إلى الأعلى