هناك هدفان لتمدد الحوثيين في كلّ الاتجاهات. يسعون أوّلا إلى إقامة دولتهم على بقعة من شمال اليمن، ويسعون ثانيا وأخيرا إلى تطويق المملكة العربية السعودية انطلاقا من كلّ المناطق اليمنية التي لديها حدود مع المملكة. وهذا ما يفسّر، إلى حدّ كبير الحلف القائم مع الانفصاليين في الجنوب. هذا الحلف يعني أوّل ما يعني أن الحوثيين ليسوا ضدّ قيام أكثر من دولة في اليمن.
كان ملفتا أنه فيما كان مؤتمر الحوار الوطني يتابع في الأشهر القليلة الماضية أعماله وصولا إلى الخروج بصيغة “الدولة الاتحادية” والأقاليم الستّة، كان الحوثيون يوسعون منطقة نفوذهم.
لم يكتفوا بالسيطرة على محافظة صعدة والتمدد في اتجاه الجوف وحجة، بل صاروا في قلب صنعاء. أخذوا في طريقهم معقل آل الأحمر، زعماء حاشد، القبيلة الأكثر تماسكا في اليمن ونسفوا منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر زعيم القبيلة الذي توفي في أواخر عام 2007 تاركا فراغا بدا من الصعب على أي من أبنائه سدّه.
لم يعد في الإمكان الاستخفاف بقدرات الحوثيين المدعومين بشكل مباشر من إيران منذ ما يزيد على عشر سنوات. صاروا قوّة لا يمكن الاستهانة بها في صنعاء نفسها. لم يتركوا فرصة لإظهار قدرتهم على الحشد في العاصمة إلا وأظهروها.
كانت المناسبة الأخيرة التي خرجوا فيها إلى الشارع الصنعاني، في مناسبة تشييع ممثّلهم في الحوار الوطني الذي اغتيل غدرا، بمثابة فرصة لتأكيد أنّهم صاروا جزءا أساسيا من المعادلة الداخلية اليمنية. كان تشييع الأستاذ الجامعي أحمد شرف الدين بمثابة تكريس لموقع الحوثيين كقوّة سياسية على صعيد اليمن ككلّ وصولا حتّى إلى قلب المنطقة الشافعية، أي إلى تعز.
لم يعد في الإمكان حصرهم بهذه المحافظة أو تلك، خصوصا بعدما صاروا في قلب صنعاء وعلى أبوابها. لم يعد بعيدا اليوم الذي سيصبح للحوثيين ميناء خاص بهم يطلّ على البحر الأحمر. سيكون هذا الميناء في ميدي، أي في محافظة حجّة التي يعملون على السيطرة عليها بأكملها.
هناك عوامل عدّة لعبت دورها في جعل الحوثيين يمتلكون هذه القدرة على التوسع وصولا إلى الدخول في صدام مباشر مع حاشد وتحديها في عقر دارها. في مقدّمة هذه العوامل، وقوف مؤسسات الدولة على الحياد من جهة، وتمكّنهم من إيجاد انشقاقات داخل حاشد نفسها من جهة أخرى. وقد سهّل عليهم ذلك الوصول إلى منطقة الخمري وبلدة حوث في عمران وإلى منزل الشيخ عبدالله.
ولكن يظلّ العامل الأهمّ في المعادلة اليمنية الجديدة سقوط معادلة «الشيخ والرئيس». إنّها المعادلة التي تحكّمت بالبلد طوال ما يزيد على ثلاثة عقود، والتي انتهت عمليا في اليوم الذي دار فيه قتال داخل صنعاء. كان القتال بين القوات الموالية للرئيس علي عبدالله صالح، الذي ما لبث أن تنحى عن السلطة في مثل هذه الأيام قبل عامين، وبين الموالين لآل الأحمر (مشايخ حاشد) الذين تحالفوا مع اللواء علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرّع. واللواء الأحمر من قرية بيت الأحمر مسقط رأس الرئيس اليمني السابق.
منذ العام 1978، تاريخ وصول علي عبدالله صالح إلى رئاسة الجمهورية، كان هناك حلف بينه وبين الشيخ عبدالله الأحمر، على الرغم من التجاذبات التي قامت بينهما بين حين وآخر. لم يقدّر ورثة زعامة الشيخ عبدالله أهمّية هذا الحلف الذي كان يعني، بين ما يعني، رعاية الدولة ومؤسستها لحاشد، على حساب القبيلة الأكبر، ولكن الأقلّ تماسكا واسمها بكيل.
ما نشهده في اليمن حاليا، بدءا بخروج مؤتمر الحوار الوطني بوثيقة “الدولة الاتحادية” وصولا إلى سيطرة الحوثيين، وهم في الأصل زيود صاروا اثني عشريين يرفعون شعارات إيرانية، يأتي كنتيجة مباشرة لانهيار معادلة «الشيخ والرئيس». الأكيد أن نتائج في غاية الخطورة ستنجم عن هذا الانهيار الذي أفقد صنعاء دورها التاريخي على الصعيد اليمني. كانت كلّ الصراعات تدار في الماضي من صنعاء بصفة كونها «المركز». صار الصراع داخل أسوار صنعاء نفسها في وقت لم يعد هاجس التوريث، الذي طالما استُخدم لمحاربة علي عبدالله صالح، يقلق أحدا في البلد كلّه.
هناك أسئلة كثيرة ستطرح نفسها في الأيام والأسابيع المقبلة. لا ينفع في مواجهة هذه الأسئلة إلقاء اللوم على علي عبدالله صالح أو توجيه اتهامات إليه كما يفعل ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة جمال بن عمر. تتعلّق الأسئلة بمصير اليمن، وما إذا كان كلّ من الأقاليم الستّة سيصبح دولة مستقلّة لديها ميناؤها ومطارها. الأكيد أن حضرموت تتطلع إلى الاستقلال، وأن الحوثيين ليسوا بعيدين عن هذا التوجّه، خصوصا أن إيران تدعم بعض الشخصيات في تلك المحافظة المهمّة ذات الموقع الإستراتيجي، كما أن هناك روابط معيّنة بين بعض الحوثيين وبعض الحضارمة. أحد هذه الروابط هو الرابط “الهاشمي” الذي يعتدّ به يمنيون كثيرون، خصوصا بين زيود الشمال…أو الذين كانوا زيودا.
وسط كلّ الضجة التي تحيط بتقدّم الحوثيين في معقل حاشد، لا مفرّ من التساؤل إلى أين يمكن أين يذهب هؤلاء في توسّعهم؟ متى سيسيطرون على صنعاء بشكل رسمي؟ إلى أي حدّ سيمتدّ نفوذهم الواضح الذي بلغ تعز؟
في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة، يمكن ملاحظة أن الحوثيين يمتلكون إمكانات كبيرة إضافة إلى أن لديهم دعما إيرانيا قوياّ بالمال والسلاح والتدريب والاتصالات من أجل تنفيذ هدفيهما غير المعلنين.
ولكن يظلّ أن اليمن هو اليمن بمناطقه ومجتمعه القبلي وتعقيداته ومشاكله الضخمة، على رأسها الفقر والنموّ السكاني والمياه والزراعة وغياب المدارس والجامعات وانتشار القات والسلاح…والإرهاب!
هل في استطاعة الحوثيين ابتلاع الانتصارات التي حققوها أخيرا وهضمها؟ هل يستطيعون ذلك رغم أنّهم يعرفون تماما ما الذي يريدونه؟
من تعمّق في اليمن، ولو قليلا، يستطيع القول إن الحوثيين ابتلعوا لقمة لا تتناسب وحجم معدتهم، وذلك بغض النظر عن إمكاناتهم الكبيرة ودرجة انضباطهم الشديد وقدرتهم على تجييش عدد كبير من اليمنيين في صفوفهم. إنهم قادرون حتى على الاستفادة من العائدين حديثا من المملكة العربية السعودية من أبناء تعز والمناطق المحيطة بها بعد الحملة على العمالة غير القانونية في المملكة…
ثمّة من يقول إن اليمن بلد المفاجآت، دائما وأبدا، وأن الشيء الوحيد الأكيد في المرحلة الراهنة هو أن البلد يبحث عن صيغة جديدة. أي دور سيكون للحوثيين في هذه الصيغة، وأي دور للقبائل اليمنية التي يريدون التخلّص من دورها والتي عانت طويلا من صيغة «الشيخ والرئيس» التي كانت حاشد المستفيد الأوّل، أو الثاني، منها؟ ما تمرّ به مصر يعطي فكرة عن المخاض الذي تمرّ به المنطقة كلّها. فإنقاذ مصر إنقاذ للمنطقة، خصوصا أنّ أكثر ما يعاني منه العرب في هذه المرحلة هو الفراغ…في فترة لا تتحمّل الفراغ!