[esi views ttl="1"]

الاختلاف في الرأي قيمة حضارية

هكذا يمكن تعريف الاختلاف الراقي في الرأي بوصفه قيمة حضارية، لا تجد مكاناً لها إلاَّ في المجتمعات المتقدمة وعياً وأخلاقاً وسلوكاً ووطنية.

وإذا كان الاختلاف في الرأي يختلف عن الخلاف، فإن الاختلاف في الرأي يختلف كذلك عن الاختلاف على المصالح. الأول يثري الفكر الإنساني ويرتقي بوعي الشعوب، والآخر يهبط بالفكر ويتحول إلى طموحات ذاتية وقد تتطور إلى نوع من التعصب والانحياز غير الموضوعي.

وما يسود في واقعنا العربي في هذه المرحلة من خلافات لا علاقة له من قريب أو بعيد بالاختلاف في الرأي، وما هو إلاَّ صراع على المصالح وبوسائل متدنية لا علاقة لها بأي شيء من الفكر ولا تمت بصلة إلى ما يسمى بالرأي والرأي الآخر. وهي تعود بنا إلى ما كان سائداً في المجتمعات البدائية.

لهذا فلا نكاد نجد في واقعنا العربي نموذجاً للاختلاف بمفهومه الحضاري وبأبعاده التي كانت قد سادت في وطننا العربي في قرون ازدهاره المادي والفكري والروحي، فقد عرفت الأمة العربية سجالات فكرية على درجة عالية من النضج والانفتاح، وصدرت عنها مواقف ما تزال شاهده فيما وصل إليها من كنوز فكرية وعلمية تتحدى الواقع الراهن، وتضعه في موضع التساؤل والإدانة.

وسيكون علينا لكي نصل إلى ما كان قد وصل إليه أجدادنا أن نعبر سبعة قرون عائدين إلى الزمن العظيم، زمن المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من العلماء المجتهدين في أمور الدين والدنيا، زمن الحوار المفتوح على الجهات الأربع دونما حساسية أو شعور بالخروج على الثوابت الأساسية التي جعلت من العقل مفتاحاً للإدراك والإيمان العميق.

لقد وضع المفكرون العظام في الماضي والحاضر قواعد لاختلاف الرأي واحترام مبادئ التعايش بين الأفكار على تعدد رؤاها، وما يدهشني ويثير إعجابي هذه القاعدة الجديدة التي وضعها المفكر العربي الكبير الدكتور محمد عابد الجابري وهي: “أنا لا أفهم ما لا تفهم.. وأنت تفهم ما لا أفهم”.

وعند هذا الحد يتقابل المختلفان. ولكي نصل إلى نوع من الوفاق لابد أن تترك لي مجالاً أشرح لك من خلاله ما لا تفهم وأن أترك لك مجالاً لتشرح لي من خلاله أيضاً ما لا أفهم، وعندئذ نكون قد تلاقينا عند نقاط محددة تمنعنا من الوقوف على حافة الخلاف أو من هاويته. أين نحن من هذه القاعدة، ومن قواعد أخرى كانت تهدي المختلفين عبر الحوار إلى الصواب المشترك وتحمي الفكر من الابتذال والمفكرين من الوقوع في براثن الصراع الخارج عن نطاق البحث عن الحقيقة والتعاون في حماية المجتمعات من الانزلاق وراءه.

وما أحوج الأحزاب والمنظمات السياسية المتصارعة في الوطن العربي إلى قواعد تحكم اختلافها أو بالأصح خلافها، ولن يكون ذلك ممكناً إلاَّ إذا تخلت عن التعصب وأدركت أن الحقيقة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أكبر من أن يستوعبها مكون واحد من المكونات السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.

وأن إزاحة الرأي الآخر وإقصاء أصحاب الأفكار المخالفة لا يبني أمة ولا يخرج شعوباً من واقعها المتخلف والمزري، ولأن أول ما تعلَّمه الناس من أبجديات السياسة أن البرامج والرؤى هي التي تحكم، وليس الصوت العالي ولا الإقناع بالقوة، كما أن الغلبة لا تكون في مجال السياسة وحكم الشعوب، الغلبة في الحروب فقط.

وفي أوضاع كالأوضاع السائدة في الوطن العربي لا مكان لحزب سياسي أو جماعة سياسية تحاول أن تنفرد بحكم قطر واحد مهما كان تاريخ هذا الحزب أو هذه الجماعة، والمشاركة وحدها هي الحل الذي لا حل سواه.

زر الذهاب إلى الأعلى