[esi views ttl="1"]

أنسي الحاج… الحظّ كل الحظّ

الحظّ كلّ الحظّ، هو بالتعرّف إلى أشخاص كأنسي الحاج. قبل ذلك، كنّا نخاله طيفاً لا جسد له ولا وجه. كان بالنسبة لنا مجرد اسم أو كتاباً أو صحيفة، لا رجلاً حقيقياً. تماماً كهوميروس. شخصية مختلَقة أو اسماً وهمياً لمجموعة كتّاب وشعراء. دخل علينا في صحيفة “الأخبار” البيروتية، لا ليعلّمنا الكتابة الصحافية، ولا ليقرأ علينا شعره، بل ليُفهمنا، من دون قصده طبعاً، وبمجرّد تعرّفنا إليه، أننا لا شيء، تماماً لا شيء. نحن بشر وهو بشر؟ صعب.

المهم أننا كنا محظوظين بالتقرّب منه، على الأقل لكي نُخرج عقدنا النفسية الاجتماعية إلى العلن، بالتباهي أمام “الغرباء” بأننا “أعز أصدقاء أنسي”. حتى الأستذة أسقطناها عنه، فبتنا بين بعضنا البعض نسأل “كيفو أنسي”، و”شو أخبار أنسي”… ولكي نزيد جرعة أمراضنا النفسية، كانت أحاديثنا مليئة بالاقتباسات التي نسرقها منه، أو بالأحاديث التي ندّعي أنه خصّنا بها، لكلّ منا بشكل حصري، مرفقين روايتنا طبعاً بأنه لم يكن يخاطب كل منا إلا باسمه الأول… إلى هذه الدرجة كنا نحب أن نقنع أنفسنا بأنه يكترث بوجودنا. الحق عليه، كان يوهمنا فعلاً بأنّ كلّاً منا مميز جداً عنده، ويكاد يكون الأهم في حياته! سخفاء نحن وقد سرقنا منه ساعات طويلة كان قادراً على الاستفادة منها لينتج ألف فكرة جديدة في الساعة الواحدة، وهو المتفاجئ الدائم والمبهور باستمرار بكل شيء.

المهم أننا كنا محظوظين بالتعرف إليه، على الأقل لنعرف حجمنا في هذه الدنيا، ولنتأكد أننا لا شيء بتاتاً. لا شيء سوى عدد زائد. هو الذي كان يعتبر نفسه لا شيء أيضاً عندما يتكلم على بودلير ورامبو وفولتير وخصوصاً فيكتور هوغو. هوغو الذي خصّص له الراحل آخر أشهر حياته بإعادة قراءته مجدّداً، بعدما أنهى قراءته كاملاً قبل عقود طويلة. وفي كل يوم كان يدخل على صديقه إميل منعم في “الأخبار”، كان يسرد عليه آخر “اكتشافاته” الجديدة حول فيكتور هوغو، مرفقة مع ضحكاته التي لا تنافسها ضحكة، بالفرح والسينيكية في آن. هي السينيكية التي كان أنسي الحاج يعشق تعريف أوسكار وايلد لها: هي أن تعرف ثمن كل شيء، وألا تعطي قيمة لأي شيء.

“لماذا لا أستطيع أن أعيش ألف سنة لأتمكن من قراءة كل ما عليّ قراءته؟”. كان ذلك التساؤل الأبدي لأنسي الحاج. “لمّا يصير الواحد بعمر معيّن، لازم ينكبّ (يُرمى) بالزبالة” (النفايات). هذا آخر ما خرج من فمه على مسامعنا، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي 2013، أمجد ناصر وإميل منعم وحسام كنفاني وأنا.

يا ليتك متَّ مثلما كنتَ تشتهي، واقفاً أو نائماً من دون أن تستفيق، جميلاً ساخراً من الدنيا بأمها وأبوها، توّاقاً للجمال وللمرأة… فهي أجمل ما في الدنيا… والكلام لك دائماً.

زر الذهاب إلى الأعلى