[esi views ttl="1"]

سذاجتنا.. في مواجهة تخطيطهم ومصالحهم!؟

لا نجد كلمة موضوعية تصف سلوكنا تجاه العالم المحيط بنا إلا السذاجة.. إنها سذاجة في المشاريع وسذاجة في الخطاب.. أفكارنا ساذجة وخططنا ساذجة وآمالنا ساذجة.. ولا نكاد ننهض من مذبحة مجللين بدمائنا وآلامنا حتى تحيط بنا مذبحة أخرى أشد عنفا.. وكأنه مكتوب على امتنا منذ فقدنا غرناطة السقوط تلو السقوط، فيما لاتزال قوى الشر والعدوان المتمركزة في الإدارات الغربية تمعن فينا فتكا وضربا على المفاصل كي تحرمنا من فرصة النهوض.

وما يثير الحزن والخوف الرهيب أن كثيرين منا لم يدركوا بعد أننا نعيش في عالم تتحكم فيه قوى متمكنة ولديها من القوة ما يسمح لها بتنفيذ معظم ما تريد.. ويستجيب السياسيون والمثقفون فينا لمنطق التعامل مع الكلمات والخطابات والإعلام.. وتجد اكثرنا فهما ووعيا هو من وصل مرحلة المتابعة والتحليل لتصريحات هذا المسئول الغربي أو ذاك.. بل يصل الأمر بأن يعتقد البعض منا ان تحالفاته مع هذه الدولة الغربية أو تلك ضمانة دائمة لقوته واستمراره في دوره.

إن الأمثلة لدينا عديدة تكشف لنا كيفية تعامل الغربيين معنا بعيدا عن التصريحات والخطابات والمعاهدات والتحالفات.. إن الغربيين يستخدمون الإعلام للتضليل وإثارة الزوابع في ميدان القتال لتغطية الحقائق، بينما يسيرون إلى أهدافهم الحقيقية غير المعلنة والمغلفة بخطاب إنساني وسياسي، مستفيدين فيه من أخطائنا المجانية والجسيمة وغير المبررة..

في المشهد العراقي والليبي والمصري والسوري واليمني يتجلى لنا منهج التعامل الغربي مع الأصدقاء والحلفاء.. ففي العراق كانت الصداقة "عميقة" بين رامسفيلد وصدام حسين إبان الحرب على إيران.. لقد تنازل العراق مع أول قذيفة وجهها ضد إيران عن جبهة الصمود والتصدي التي كان من زعمائها بعد معاهدة كامب ديفد، وهكذا ألحق ضربة قاصمة لرفض الأمة الإنهيار وانحاز إلى ترتيب أوراقه مع انظمة منخرطة في العجلة الأمريكية في المنطقة.. فعادت بغداد مقر رجل الأمن الأمريكي بعد أن انعقد الاتفاق بين القيادة العراقية والأمريكية على هزيمة الثورة الإيرانية على أن تكون جائزة العراق ضم الكويت.. ولكن بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية على غير ما توقع الأمريكان وبدون رضاهم، استشار صدام حسين السفيرة الأمريكية "ڤريسبي" حول نيته في ضم الكويت كما كان الاتفاق مع الأمريكان، وإمعانا في المؤامرة والتضليل لم تبد السفيرة أي اعتراض، وقالت ان هذا شأن عربي وعراقي لا دخل للإدارة الأمريكية فيه.. فكان الذي كان من نتائج وخيمة على المنطقة كلها انتهت باحتلال العراق وتدمير جيشه وشنق صدام حسين..

وفي المشهد الليبي ظن العقيد معمر القذافي ان صداقته لساركوزي إلى الدرجة التي دفعت بالعقيد إلى دفع تكلفة الحملة الدعائية للريس الفرنسي من المالية الليبية، وإمعانا في الإحساس بأنه يستطيع شراء الموقف الأوروبي جاء بطوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق ليصبح مستشارا له للشئون السياسية مقابل مرتب عال.. الا ان هذا كله لم يحمه من صواريخ طائرات فرنسا وهي تلاحقه وتعرضه لميتة فاجعة بعد ان دمرت قواته وبددت البلاد ومزقتها.. الأمر نفسه يتكرر في كل المشاهد الأخرى في اليمن، حيث وقع علي عبدالله صالح مع الأمريكان اتفاقيات يسمح للطائرات الأمريكية من خلالها بملاحقة يمنيين بالقتل والتفجير في الجبال والصحراء اليمنية، وان يجعل من موانيء اليمن قواعدا عسكرية للأمريكان والفرنسيين، وأن يتخلى عن حراسة باب المندب لصالح اسرائيل، ورغم ذلك كله لم يجد منهم إلا الخذلان والقرار الغربي بضرورة رحيله.. الأمر نفسه يمكن قراءته في المشهد السوري، حيث العلاقات المتواصلة مع الأمريكان والتي بلغت في ظروف معينة درجة عالية من التنسيق لاسيما في أواسط السبعينيات عندما توجه النظام للتدخل للجم المقاومة الفلسطينية بلبنان وأوائل الثمانينيات عندما طرد المقاومة الفلسطينية من حدود فلسطين وشتتها.. ثم جاءت الصداقة المتميزة بين تركيا وقطر من جهة، والنظام السوري من جهة اخرى مرفوقة بتهدئة مطلقة على الحدود السورية مع الكيان الصهيوني.. وليس أخيرا مشاركة الجيش السوري للجيوش الأمريكية والغربية في الحرب على العراق.. وعندما حانت ساعة المخطط الأمريكي لم يلتفت الأمريكان إلى كل الخدمات التي قدمها النظام للسياسة الأمريكية فذهبوا يحرضون وينفخون النار في الوطن السوري، مجيشين أدواتهم في المنطقة..

إنها قصة المكافأة بالتي هي أسوأ المكافأة بالقتل والإفناء.. قصة علاقة غادرة من قبل الأمريكان تجرع النظام العربي خيبتها.. انها قصة النظام العربي الذي لا يستوعب مرجعية المواقف الأمريكية واسلوبها بعيدا عن التصريحات والإعلام.. ولهذا حرم من امكانية التفكير بالفعل الإيجابي.

من الجدير بالتنبيه اليه انه ليس هناك موقف نهائي ثابت تتخذه الإدارات الغربية لاسيما الأمريكية تجاه أي من دولنا أو أحزابنا فيمكن أن يبدأوا علاقتهم بصراع وينهوها بتصالح أو العكس، فهم لا يندفعون في المواجهة إلى نهاياتها إلا إذا كان ذلك أكثر فائدة مما لو توقفوا عند لحظة ما.. وهذا نكتشفه في عملية التجييش ضد سورية، حيث دفعوا بقوى مسلحة من خلال تسهيلات بذلها أعوانهم في المنطقة للمسلحين؛ ولكن أمريكا وهي تقوم بذلك إنما تراقب بدقة إلى أين وصلت الأمور، فهي مستعدة في ظل شروط ما أن تتعامل مع النظام السوري أو ان تغض الطرف عنه.. وهي عندما وجدت انها مخيرة بين حرب عليه أو أن يسلم السلاح الاستراتيجي وافقت على تسليمه للسلاح وأشاعت جوا من الانفراج.. وإن كان الاعتقاد لازال قائما انهم سيبيتونه مطمئنا من عدم امكانية شن الحرب الغربية عليه فيما هم يهيئون لظروف اكثر ملاءمة بعد انهاكه وتبديد جيشه وضبط مستمسكات على أسلوب قتله للمعارضين في السجون والمدن والأرياف.. وبعدها إن وجدوا من الفائدة ان يبتزوه لتركيعه اكثر لشروطهم في المنطقة فسيكتفوا مرحليا، وإن وجدوا ان الظرف اصبح مواتيا لتفتيت سوريا سيختلقوا قصصا اضافية لمواصلة عدوانهم.. وهم في كل ذلك ينطلقون من دراسات استراتيجية معمقة لدى وزارة الدفاع والبيت الأبيض والكونغرس ووزارة الخارجية، وما يتوصلون اليه من تحليلات وصناعة موقف وقرار لا يخضع للتهريج الإعلامي انما يظل حبيس مواقع التنفيذ ويستخدم الإعلام في هذه الأحوال لإثارة الزوابع لكي لا يرى ما بعد الأكمة.

هنا ننتقل بالحديث إلى مستوى آخر.. هنا ندرك أن التصريحات والوعود والتحالفات لا قيمة لها.. فلعلنا نتذكر وعود بوش الأب والابن للعرب والفلسطينيين بقيام دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس وخالية من الاستيطان، بل وصل الأمر بأن ادعى جورج بوش الابن: "أن الرب قد أمرني ان ادخل افغانستان فنفذت أمر الرب، وأمرني ان ادخل العراق فنفذت أمر الرب، وأمرني ان أقيم الدولة الفلسطينية وانني سأنفذ أمر الرب"". وصدقه كثيرون منا وكأن الذي يتكلم هو نبي من انبياء الله عليهم السلام.. وبعد ذلك قتلوا ياسر عرفات ودمروا ما كان قائما من مؤسسات السلطة الفلسطينية ومكنوا لإسرائيل اكثر في مفاصل الوجود الفلسطيني.

اذن كيف نقيم استراتيجيتنا في مواجهة الإدارات الغربية والأمريكية على الخصوص!؟ للإجابة على هذا السؤال نسرع إلى القول انه ينبغي ان لا نعتمد على التصريحات وما تنشره وسائل الإعلام من مواقف وخطابات للمسؤولين الأمريكان والغربيين، ولا ان نعير اهتماما لما يتم الاتفاق فيه وعليه معهم.. وهنا لا نقصد ان لا نتابع، ولكن المقصود ان لا نكتفي بذلك كي نبني موقفا أو نتخذ سياسة.

هم يتصرفون تجاهنا بناء على نتائج أبحاث وتحليلات وتقدير مواقف ومصالح استراتيجية، وهذا كله متغير ومتطور لا استقرار له ولا سقف يحده انما هي المعطيات المتبدلة والمتطورة.. يقدمون ذلك كله على طاولة صانع القرار الأمريكي الذي يحفظ درسه كاملا أن عليه توفير الخطاب المناسب والإعلام المناسب والتحرك السياسي المناسب لإنجاز المصلحة الأمريكية وتقليل الخسائر واتخاذ الخطوات الملائمة والمحسوبة تماما.

وفي مقابل ذلك، لابد من مراكز تحليل ومتابعة لدراسة المصالح الغربية والقوة الغربية وتحرك رأس المال الغربي والمشكلات والتطورات الحاصلة فيه وتقديم التوقعات المحتملة الناتجة عن ذلك التي يمكن ان يقوم بها صانع القرار الغربي والأمريكي بشكل خاص ومن ثم اتخاذ موقف مناسب قابل للتعديل بسيناريوهات مناسبة آخذا في الاعتبار كل ما سبق.

والموقف الوجيه المفيد لابد ان يكون قادرا على إيصال الإشارة للأمريكان واضحة انهم سيخسرون فيما لو تصدوا لمصالحنا وحقوقنا الثابتة.. ولكي نصنع هذا الموقف فإننا نحتاج لفهم استراتيجي بناء على تقييمات علمية نابهة للموقف الغربي ومن ثم تقديم سيناريوهات عمل على طاولة صانع القرار في بلداننا، وهذا الفهم يقودنا حتما إلى مرحلة جديدة على صعيد القناعات والروح لتوحيد جهودنا وتعاون أقطارنا على المستوى الاستراتيجي، لأن ذلك هو الضمانة الوحيدة للدفاع عن خياراتنا وإرادة أمتنا في النصر، وإلا فإننا سنسقط اقليما اقليما كحجارة الدومينو.. فهل لنا قلوب نعقل بها؟ تولانا الله برحمته.

زر الذهاب إلى الأعلى