[esi views ttl="1"]

من يصدّق الإعلام؟

كثرت الشكاوى من انعدام صدقية الإعلام، لنقل بعض ما يجيء به. هذه الشكاوى تتصاعد مع احتدام الأزمات وانقسام الدول، أو المجتمعات، إلى أطراف متناحرة.

كان المواطنون العرب يشكون، من قبل، سياسة النعامة التي يتعامل بها الإعلام الرسمي العربي مع القضايا التي تهم الناس، سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو اجتماعية. الحل الأسهل كي لا يرى الإعلام ما يجري هو دفن الرأس في الرمل، أو إدارة الظهر. فما لا تراه، على شاشة تلفزيون، لا يحدث.. على طريقة بورديار "حرب الخليج لم تقع"!

كم مرةً كانت الدنيا مشتعلة عندنا، والتلفزيون العربي الرسمي يبث برامج عن المخاطر التي تهدد "الفقمة" جرَّاء ذوبان الجليد! لذلك، كان المواطنون العرب يلجأون إلى وسائل إعلام أجنبية، ليعرفوا ما يجري في بلادهم، أو كي يسمعوا "رواية" أخرى (هل نقول رواية أصدق؟) حيال ذلك.

لكن، الإعلام العربي تغيَّر مذ كانت "بي بي سي" المصدر "الأوثق" للأخبار، فقد نزلت إلى الميدان وسائل إعلام "خاصة"، في طورٍ ملتبسٍ من اقتصاد السوق المتوحش، وهيمنة الدولة الفاسدة على بعض القطاعات الاقتصادية، فصار عليها أن تنافس إعلام الدولة نفسها في التضليل، ولكن، بطريقة أقل مللاً، ويمكن أن تتخذ من عواصم أوروبية مقراً لها، لإعطاء إيحاء ب"الاستقلالية" و"الحيدة"، وعدم الانضواء في سياسة الدولة التي تموّلها.

***

كلما حدثت أزمة في العالم العربي، حضر الإعلام إلى الواجهة. ولسوء حظنا، فقد تجاوزنا، في الآونة الأخيرة، طور الأزمات إلى طور الكوارث الوطنية، وانتقلنا من الثورات الواعدة إلى الثورات المضادة التي تحرز أرضاً وفضاءً متزايدين. فمن الطبيعي، والحال، أن يكون الإعلام في الواجهة. أن يكون دليلنا إلى ما يحدث، خصوصاً عندما نكون في مقاعد المتلقين الذين لا حوْل لهم ولا قوة في ما يُكتبُ ويُبثُّ.

الانقسامات العربية ليست جديدة. فهذه حكاية قديمة قدم الصراع بين "المعتدلين" الذين لا تتغير وجوههم، ولا مواقعهم (جماعة مبدئيين!) و"المتشدّدين" الذين يصعب حصرهم في اسم أو وجه. ففي كل مرحلةٍ، هناك من يضع قناع "التشدّد"، وقد يكون من أكثر المتساهلين. ولكن، هذا موضوع آخر.

الأمثلة على انقسام الإعلام العربي حيال الأحداث والوقائع لا تعدُّ ولا تحصى. لكن، دعونا نأخذ أمثلة راهنة.

ل 30 يونيو/ حزيران العام الماضي في مصر اسمان وحقيقتان. في بعض وسائل الإعلام يدعى ثورة، وفي وسائل إعلام أخرى يسمى انقلاباً. الملايين التي نزلت إلى الشوارع هم من لحم ودم وغضب في الأولى، وفي الثانية جموع ألفها وأخرجها، على الهواء مباشرة، مخرج سينمائي!

ما هي حقيقة ما حدث؟

أمامنا حقيقتان "صلبتان"، لا تقبلان المهادنة أو المساومة على حرف من روايتيهما.. على "حقيقتيهما". حتى الطرف "المحايد" (الإعلام الأجنبي) لم يسلم من جاذبية الانحياز، بسبب حدّة الاستقطاب وانعدام إمكانية الاختباء في ظلال الكلام والصور. وحتى الآن، لا تسوية، أو أرض مشتركة، بين هاتين "الحقيقتين" اللتين أريق على جوانبهما دم غزير.هذا مثال أصبح كلاسيكيّاً.

لنأخذ مثالاً أحدث: ما يجري في العراق. هناك طرف وازن في الإعلام العربي يقول: إن "داعش" هي التي بسطت سيطرتها (بقدرة قادر!) على نحو نصف العراق، ببضعة آلاف من المقاتلين "الأجانب". في المقابل، هناك إعلام آخر، وإن أخفت صوتاً وأضعف تأثيراً، يقول: إن ما حدث في العراق ثورة مسلحة، انفجرت في وجه الإقصاء والتهميش الطائفيين، ولا تشكل "داعش"، (لم ينكر وجودها أحد!)، إلا جزءاً يسيراً من الثورة العراقية المسلحة!

من هم، حقاً، الذين يقاتلون في العراق؟

ثوارٌ أم تكفيريون؟

عراقيون أم أجانب؟

أية رواية يصدِّق الناس الذين يجلسون في مقاعد المشاهدين والقراء؟ كيف يمكن استخلاص الحقيقة؟

هل يمد لنا الإعلام العربي السائد يداً؟
كلاّ.

لمن نلجأ لنعرف؟

سيقول بعض: إعلام المواطنين! إعلام شهود العيان والمنخرطين في الميدان، الميديا الاجتماعية. ولكن، هل يكفي أن تكون "الميديا الاجتماعية" في يد الناشطين والمواطنين الصحافيين، حتى تكون صورتها وخبرها صحيحين؟ ألا ينقسم المواطنون الصحافيون والناشطون على صورة الانقسام الاجتماعي؟

نعم يفعلون. ولكن، لنتذكر أنه لولا هؤلاء لما عرف العالم، مثلاً، ثلاثة أرباع جرائم النظام السوري. لولا هؤلاء الذين لا يخلون، بالطبع، من الهوى والغرض، لما قلّلت وسائل الإعلام العربية الرسمية، وشبه الرسمية، كذبها بعض الشيء، والأهم، اضطرارها إلى وضع هذا "الإعلام" في الاعتبار، عندما تقرّر أن تكذب.

زر الذهاب إلى الأعلى