[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

عندما يكبر الوهم

قال صاحبي في مطلع الثمانينات من القرن الماضي تم اختياري ضمن مجموعة من الطلبة للدراسة في جمهورية المانيا الديمقراطية (الشرقية) سابقا ووصلت إلى هناك بعد ان خرجت من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بعد رحلة طويلة وانا في بالي أعيش نشوة القوة والسمو اننا في مصاف الدول العظمى وأننا سنحرر العالم وسنقضي على الامبريالية العالمية وسنغزو أمريكا في عقر دارها.

وكنا قبل فترة قد شققنا دون سفلته طريقا جبليا في احدى المناطق وصرح حينها أحد كبار المسؤولين ان فتح ذلك الطريق يعد ضربة للإمبريالية العالمية بقيادة الشيطان الأكبر أمريكا ومن يدور في فلكها بل لقد كنا على مرمى حجر من قارة ذلك الشيطان بتحالفنا مع الرفيق الكوبي فيدل كاسترو الذي شرفنا بزيارته إلى بلادنا في نهاية السبعينيات،

بل لقد بلغ من قوتنا أن طائراتنا تقصف الثوار في إقليم اوغادين الصومالي المسلم لتمكين الرفيق مانجستو هيلا مريم الاثيوبي الصليبي من السيطرة عليه وعلى ثرواته المحتملة وليتوسع نفوذه في المنطقة ولضرب الثوار الاريتريين واسقطت في تلك المهمة احدى طائراتنا وتم أسر قائدها،وكنا من يدعم ثوار الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، وأوليست اغنية (اشيد) المحببة والتي يتردد صداها في الإذاعة الرسمية صباح مساء:

يا شباب العالم ثوروا
يا عمال يا فلاحين
دمروا بالعنف الثوري
دمروا دمروا الامبريالية
وشيدوا شيدوا الاشتراكية

كل ذلك كان في دماغي عندما وصلت إلى المانيا الديمقراطية ولم اصدم بالفارق العمراني والعلمي بيننا وبينهم فهم رفاقنا ونحن رفاقهم في مسيرة النضال التحرري الطويل وتطورهم تطورنا، وبدأت الدراسة الجامعية وما زالت افكاري وتصوراتي محبوسة داخل علبة صلصة صغيرة على حسب تعبيره.

وكانت المفاجأة أو سميها الصدمة وأنا في قاعة الكلية وأمامي ذلك الدكتور الألماني العجوز الأعرج وأظنه من بقايا العهد الهتلري ومن حملة أفكاره وهو يحاضر عن الاقتصاد والتطور في الدول الاوربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية ويتحدث بالأرقام والاحصائيات ولم يشر في محاضرته إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ولا إلى أي من دول الوطن العربي الكبير فأخذ الغليان العاطفي يملأ فؤادي حتى كاد ينفجر دماغي ما لهذا الشائب الخرف لا يذكر منجزات اليمن الديمقراطية وتطورها ودورها في منظومة الاشتراكية العلمية وحركة التحرر العالمي فخرجت عن الطور وقلت يا أستاذ مالي لا اراك تذكر جمهورية اليمن الديمقراطية والوطن العربي في محاضرتك فنظر اليّ نظرة اشفاق أو نظرة سخرية لم افرق حينها بينهما
فكان يحمل عصى طويله ووضع طرف العصى على موقع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وقال اين هي اليمن الديمقراطية فقلت له غطيتها بطرف العصى قال هي اذن تحت طرف العصى ولولا نحن لما كنتم"

اجبني عما يلي:
كم انتاجكم والوطن العربي اجمع من الطائرات؟
قلت لا شيء
قال كم انتاجكم من الدبابات والسيارات والصواريخ والأسلحة؟
قلت لا شيء
قال كم انتاجكم من الحبوب والخضروات وكم هي صادراتكم إلى الدول الأخرى؟

الجواب لا شيء أيضا ناهيك عن التكنلوجيا وعلوم الفضاء والعلوم الطبية وغيرها، ثم قال الدكتور الهتلري الوطن العربي كبير بمساحته وببحاره وانهاره وبثرواته النفطية والمعدنية وبعدد دوله المجتمعين متفرقين تحت قبة الجامعة العربية ولا يتفقون على رأي واحد هناك 3 أمور تبدعون فيها أيها العربان الأول وليس الكل طبعا حفظ ابيات من الشعر تطنطنون بها:
ملأنا البر حتى ضاق منّا
وذاك البحر نملأه سفينا
ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
طبعا هذه لعمرو ابن كلثوم استحضرتها من عندي لكنه لو كان من المستشرقين لاستشهد بها كدليل لكلامه،
وقال اما الأمر الثاني الذي تبدعون فيه فهي غرف النوم وما يسفر عنها من انتاج وفير لا يجد حتى المدارس ناهيك عن الجامعات المتخصصة والدليل

ها أنت اتيت تتلقى تعليمك الجامعي عندنا بمنحة من حكومتنا وأما الأمر الثالث فقد نساه صاحبي ولكن يكفي بهاذين الأمرين دليلا على حجم الوهم،
فقال صاحبي لقد أفقت من الغفلة وحطمت جدار الوهم وتجاوزت افكاري علبة الصلصة التي لا نعرف ما بعدها.
وها نحن الآن نعيش تلك الأوهام ونعيش تلك المرحلة من جديد بتفاصيلها لكن بمشاريع اصغر فبدل من مشاريع تحرير العالم و ضرب الإمبريالية الأمريكية والقضاء على الرجعية العربية أصبحت أهدافنا القضاء على كل مخالف لرأينا وتخوينه وننزع الوطنية عن من نشاء ونمنحها لمن نشاء وأصبح الوطن والوطنية هو ما يقوله فلان من الناس الذي ننفخ فيه حتى يصير طبلا اجوفا مستعدا للخنوع والرضوخ لما سيملى عليه حتى ولو سلّم الوطن كله !

ماهي الصدمات التي نحتاجها كي نفيق من أوهامنا ونعيش واقعنا وننظر لمستقبلنا؟

هل نحتاج لعجوز هتلري كما حصل لصاحبنا يجعلنا نفيق ام ان سنوات التيه ستطول ويفيق احفادنا بعد نصف قرن آخر؟

من يخبر لنا الدكتور الألماني أننا مازلنا نتغنى بأشعارنا التخديرية أننا أفضل ما خلقه الله على أرضه بل اننا تجاوزنا مرحلة الشعر الحصيف في مدح أنفسنا إلى السخف والحماقة التي لم يشهد لها العالم مثيل نستخدم في ذلك كل قواميس الشتائم وجميع مفردات القدح والاستخفاف بالآخرين.

أكاد أجزم أن ذلك الهتلري العجوز لوكان مازال على قيد الحياة واطّلع على مستوى انحطاطنا الأخلاقي ونفخ أنفسنا بهواء الأكاذيب والفخر الاجوف لأصيب بجلطة قد يفارق الحياة على إثرها.

زر الذهاب إلى الأعلى