[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

حُبيش.. حيث يرتسم الرفض

بلال الطيب يكتب: حُبيش.. حيث يرتسم الرفض


بعيدًا عن الشمول الذي تعمل له، وتسعى إليه الثورات المُنظمة، ورغم الجهل المُدقع، والعُزلة المُفرطة اللذين فرضا على هذا الشعب، بدأ فكر الثورة والتمرد يتسلل إلى العوام، وقامت بالفعل حركات فلاحية مُسلحة ضد حكم الإمامة المُظلم، وهي على كثرتها لم تحظَ بالدراسة والتوثيق إلا ما ندر، صحيح أنَّها - أي تلك الحركات - لم تكن ترمي إلى إحداث تغيير جذري في النظام، إلا أنَّها - وهو الأهم - هزَّت عرش الطغاة، ومهدت لزوالهم.

بعد خروج الأتراك من اليمن، تداعى مشايخ «اليمن الأسفل» لعقد مؤتمر يقررون فيه مصير مناطقهم، التقوا أواخر «أكتوبر» من العام «1918» ب «العماقي» - إحدى قرى منطقة الجند السهلية، وهناك اتفقوا على تشكيل حكومة لا مركزية، لا ترتبط بصنعاء إلا بالأحوال الاستثنائية، تدخل حينها القاضي علي بن عبدالله الأكوع، ونصحهم بالدخول في طاعة الإمام يحيى حميد الدين.

هناك من قال بأن الإمام يحيى راسلهم وخيرهم بين الاستسلام له ولحكمه أو الحرب، والأكيد أنَّه استدعاهم بلطف، وبالفعل توجه إليه وفد منهم، كان محمد عايض العقاب «شيخ حُبيش» أحدهم، والتقوا به يوم دخوله صنعاء «19نوفمبر 1918م»، رحب بهم، وقدم لهم الوعود بإبقائهم في مراكزهم، وإعفائهم من أي استحقاقات مالية، فما كان منهم إلا أن بايعوه مبايعة جماعية، بعد أنْ رفضوا تسليمه رهائن الطاعة.

لم يكن ذلك الوفد مُمثلاً لغالبية سكان «اليمن الأسفل»، الذين لم يكونوا يرغبون أصلاً بالانضمام إلى حكم الإمامة؛ بل أنَّ بعض أولئك المشايخ لم يكونوا راضين عن ذلك الإلحاق، لتبدأ بعودتهم إلى مناطقهم الاضطرابات، وفي ذلك قال المُؤرخ عبدالكريم مُطهر: «بلغ إلى مولانا الإمام حصول الاضطراب في جهات اليمن الأسفل، وعدم ثبات أقدام الذين توجهوا من المقام الشريف بعد أخذ العهود عليهم، فوقف أكثرهم موقف المُتردد».

فور تلقيه تلك الأنباء، سارع الإمام يحيى بإرسال «1,000» مُقاتل، بقيادة أحمد بن قاسم حميد الدين، ليتضاعف عددهم مع مرورهم من مدينة إب، وما إن دخلوا مدينة تعز - أواخر «ديسمبر 1918»، حتى قاموا بنهب مخازن الأسلحة في «قبة الحسينية»، ومنازل المواطنين المجاورة، وفي ذلك قال مُطهر: «وحصل من المجاهدين في تلك الأثناء الإقدام إلى انتهاب المؤنة من مخزنها في تعز، وكانت شيئًا كثيرًا.. فكان ذلك من أسباب فشلهم، وسقوط هيبتهم من القلوب».

استنجد أبناء مدينة تعز بمشايخ «جبل صبر، والأفيوش»، فأمدوهم بالمُقاتلين، وذلك بالتزامن مع وصول إسماعيل الأسود - أحد الضباط الأتراك - قادمًا من ريمة، ومعه عدد من الجنود، سلم الأسلحة التي بحوزته لثوار تعز، وشاركهم حربهم ضد المُتفيدين، وأجبروا الأخيرين على مغادرة مدينة تعز بعد أسبوع من مقدمهم، أما «الأسود» فقد مضى في طريقه إلى عدن، وهناك سلم نفسه للإنجليز.

وذكر المُؤرخ محمد بن محمد الوزير أنَّ غالبية العساكر غادروا تعز وهم مُحملين بالغنائم؛ وأنَّهم لهذا السبب لم يحبذوا الدخول في أي صراع، انقلبوا على قائدهم، وتركوه وقلة من العسكر، ليتقهقر الأخير إلى إب، وفي صنعاء اعترض الإمام يحيى طريق أولئك المُتفيدين، وأمر بحبس قادتهم، ليس لأنَّهم عاثوا في مدينة تعز نهبًا وخرابًا؛ بل لأنَّهم تركوا قريبه وحيدًا!!.

في تلك الأثناء، أعلن الشيخ محمد عايض العقاب تمرده في حبيش، هجم وعدد من أبناء قبيلته على العساكر الإماميين المُتواجدين هناك، قتل منهم عشرة، وقيل أكثر، وحاصر الباقين ومعهم قائدهم العامل عبدالله بن محمد يونس في مركز الناحية «ظَلْمَة»، لتصل بعد ثلاثة أشهر قوات إمامية أخرى بقيادة عبدالله قاسم حميد الدين، صحيح أنَّها لم تكبح جماح «الثورة العقابية»، إلا أنَّها أنقذت المحاصرين، ليلوذوا - بعد ذلك - جميعًا بالفرار.

و«ثورة حبيش» على أوجها، عقد مشايخ «اليمن الأسفل» مؤتمرًا آخرًا في مدينة القاعدة «مايو 1919م»، لم يشر المُؤرخون اليمنيون لذكره، باستثناء المُؤرخ مطهر الذي أشار إليه إشارة عابرة، حيث قال: «أثناء ظهور الخلاف من أهل حبيش كثر من مشايخ اليمن الأسفل التلاقي إلى محلات مخصوصة، ومن أكبر اتفاقاتهم ما حصل من اجتماعهم في القاعدة، وتداولهم للمراجعة والإفادات للخطة التي يبنون عليها».

فيما انفردت وثيقة بريطانية بالإشارة إلى نجاح ذلك المُؤتمر، وأنَّ المُجتمعين اختاروا الشيخ محمد ناصر مُقبل - لم يحضر «مؤتمر العماقي» السابق ذكره - رئيسًا لهم؛ لما يمتلكه من أسلحة تركية تُمكنه من مُقاومة الزحف الإمامي، وهي أسلحة كثيرة سبق للقائد علي سعيد باشا أن أعطاها الشيخ المذكور كمكافأة له ولأبناء «اليمن الأسفل» على موقفهم المُساند للأتراك طيلة سنوات الحرب العالمية الأولى، إلا أنَّه للأسف الشديد لم يُحسن استغلالها.

عاد حينها الشيخ محمد حسان إلى اليمن، بعد أن أجبره الأتراك بقيادة إلياس الجركسي على مغادرتها، وذلك بعد تمرده عليهم، حظي بدعم الإنجليز، ودخل فور وصوله بصراع مع عدد من الشخصيات الإعتبارية، والأسوأ أنّه توجه - بعد ذلك - هو ومجموعة من المشايخ المُهادنين للإمامة صوب صنعاء، بايعوا الإمام يحيى، وطالبوه بمدَّ سيطرته على المناطق الشافعية، وتعيين علي بن عبدالله الوزير حاكمًا عليهم، في الوقت الذي كان فيه الإمام قد استعد لذلك، وهيأ عساكره للانقضاض على الأرض الخصبة، والإنسان المُسالم.

«ثورة حبيش» كانت ذريعة ذلك الغزو بصورته الفظيعة، وقع الاختيار حينها لعلي الوزير - حفيد الإمام محمد عبدالله الوزير - أن يكون أميرًا للجيش، وصدر الأمر المتوكلي إليه بتأديب المُخالفين من أهل حبيش، وإصلاح جهات «اليمن الأسفل» قاطبة، وضمها بالقوة لحضيرة دولة الإمامة، وخاطبه الإمام يحيى مُؤكدًا: «حبيش وبس».

خرج علي الوزير «الذئب الأسود» - هكذا كانوا يلقبونه - خرج من صنعاء ومعه «3,000» مُقاتل من الجيش البراني - معظمهم من خولان، وبلوكين أو ثلاثة من النظام الحديث، وعدد من المدافع، وما يحتاج إليه من عدة الحرب، وما إنْ وصل إلى «المخادر» حتى بدأ بمراسلة الثائر العقاب وأصحابه، عارضًا عليهم الاستسلام، ورد الأخير على رسوله بإعطائه أربع طلقات من الرصاص، وخاطبه بالقول: «هذا هو الجواب سلمه لمن أرسلك».

تقدم «الذئب الأسود» بعد ذلك إلى «عزلة المشيرق»، وهناك باغته الثوار، وفرضوا عليه بعد مناوشات محدودة الحصار، الأمر الذي أنهك عساكره، خاصة وأنَّ ما يصلهم من الطعام كان قليلًا جدًا، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «استغنى المجاهدون بما وصل إليهم من ذلك - يقصد الطعام - فانتظم أمرهم، وكان ذلك من العناية الإلهية بالجند الإمامي، وبركة من بركات مولانا الإمام، التي ما زالت عن طور التجلي للأعين في كل واقعة ومعركة، فكم سرد الواضعون أفرادها، وأطال المشاهدون تعدادها، حتى أنك لا ترى جنديًا أو أميرًا إلا وهو يقول: لولا سعادة مولانا الإمام وبركاته، لما تم شيء من الظفر، ولا حصل من النصر ما يذكر»!!.

ثمة مثل شعبي يقول: «ما تكسر الحجر إلا أختها»، وهو ما عمل عليه «الذئب الأسود» حين استعصت عليه حبيش، استعان بالشيخين حمود عبدالرب، ومحمد عبدالوهاب، اللذين خانا «العقاب»، وتنكرا للجوار، وللعيش والملح، وساهما وبعض رعيتهما في إذلال الثوار، وقد كانت لهما مهمة احتلال جبل «العقاب»، والتضييق على سكانه، والاستيلاء على منزل الثائر محمد عايض، وقد كوفئ «حمود» بأنْ ولي عمالة قضاء العدين، فيما كانت عمالة حبيش من نصيب الآخر.

كما كانت للخولانيين الساكنين منذ عقود في حبيش النصيب الأكبر في تلك الانتكاسة، وهي حقيقة لم يذكرها المُؤرخ مُطهر، وأكدها المُؤرخ محمد بن علي الأكوع بقوله: «وكادت تحل الهزيمة بالوزير، لولا إمدادات سريعة جاءت من صنعاء، وحصول خيانة من الخولانيين الساكنين جبل حبيش، فافتعلوا هزيمة مصطنعة كما هي عادتهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى خذلهم مشايخ اللواء، فلم يواصلوا إمداداتهم من رجال، وعتاد، ومعونة، ولا شيئًا مما تعهدوا به، كما هي طبيعة فيهم».

أدت تلك الخيانة إلى انكسار الثوار، وهزيمتهم، وهروب قائدهم، وذلك بعد ستة أشهر من المقاومة «مايو 1919م»، استبيحت بعدها بلادهم، وعاث فيها الغزاة نهبًا وخرابًا، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «وتقدم المجاهدون في عزل بلاد حبيش، إلى أن وصلوا إلى ظَلْمَة، وأحرقوا أكثر الدور، وانتهبوها، وتم للمجاهدين اجتياز ما مسافته نحو أربع ساعات فلكية من البلاد المخالفة، وقتل منهم كثيرون، وأسر أيضاً منهم جماعة، وأخذت رؤوس بعض القتلى، وفرَّ الباغي محمد عايض العقاب».

ثم يمضي مُطهر في نقلة لتلك الجرائم، مزهوًا بانتصار الغزاة، وبما أخذوه من غنائم، إلى أنْ قال: «وغنم المجاهدون منهم غنائم واسعة، وكانت وقعة عظمى، أذهبت أحلام المُترددين، وشفت قلب الدين، وقرت بها عيون المؤمنين، وأيقظت ذوي الغفلة من رقدة تقاعدهم عن الموالاة الصادقة، واهتز لها اليمن الأسفل من جميع جهاته».

قاتل الشيخ العقاب قتال الأبطال، وأبلي بلاءً حسنًا، وحين أدركته الهزيمة فرَّ بأهله صوب صبيا، مُستنجدًا بمحمد الإدريسي، وحين لم يجبه الأخير، يمم خطاه صوب جدة، مُستنجدًا بالشريف حسين، ولكن دون جدوى، وكان من جُملة من ساندوه في ثورته تلك، الشيخان عبدالعزيز بن عبدالكريم الحداد، ومحمد بن حفظ الله الزوم، ليرفع الأخير راية استسلامه، وذلك بعد أنْ أحدق عساكر «ابن الوزير» بمنزله، ونازلوه منازلة شديدة.

أما الشيخ الحداد فقد قاتل حتى آخر طلقة، وقتل من على شرفة داره العتيق «60» غازيًا، وكانت نهايته قتيلًا تحت أنقاض تلك الدار، بعد أنْ عمد الغزاة على حرقها، وهدمها، وتركها قاعًا صفصفًا، وقد صارت بطولة ذلك الشيخ المقدام محط فخر واعتزاز أبناء حبيش قاطبة، وعنه قالوا في أمثالهم: «حداد الحروب، وحداد الرؤوس».

عمد الأمير علي الوزير بعد ذلك على تخريب حصون الثوار، كحصن «عيال إبراهيم»، وغيره، ليفد إليه أثناء مكوثه في «ظَلْمَة» عدد من مشايخ «اليمن الأسفل»، وقد «أظهروا الانقياد والندم على ما كان يبدر منهم من الميل إلى العناد» - حسب توصيف المُؤرخ مُطهر - أما أهالي إب فقد انفردوا - كما أشار ذات المُؤرخ - ب «الثبات على الموالاة، وإعانة المجاهدين السابقين والتالين بالكفايات من الطعام وغيره».

وعن تلك الثورة قال أحد شعراء الإمام:
وسل عن حبيش حين زاغ عقابه
فمالت عليه بالدمار صقور
وطار بمن ساواه في البغي هائمًا
وما ضمه بعد البوار ذكور
دعى قومه من حُمقه لغواية
فقالوا أطعنا والدبور حبور
فباءوا بإثم البغي بعد ندامة
وهبت عليهم بالهلاك دبور

شهدت حُبيش بعد مقتل الإمام يحيى تمردات خاطفة ضد خلفه الإمام أحمد حميد الدين، وعاقبها الأخير بإباحتها للقبائل قائلًا:
ألا يا أهل الحدا يا أهل آنس
عشاكم البلاد المُفسدات

ومن يومها - كما أفاد الباحث عادل الأحمدي - صارت «سنة الحدا» معلمًا زمنيًا يستدل به الآباء على أعمار أبنائهم، وعلى وحشية الإمام، كاشفًا أنَّ تلك السياسة الرعناء سلبت العدين وحبيش زخرفها، وزرعت البغضاء بين أبناء الشعب الواحد، لتعود تلك القبائل بخفي حنين على أثر صيحة أخرى للإمام أحمد:
يا أهل الحدا خيرة الله عليكم
حق بيت المال كلا يرده

وأختم هذه التناولة بما قاله ذات الباحث في استطلاع له نُشر في صحيفة «الثقافية»: «إنَّها حبيش، حضارة الرفض، وحاضرة الذرة الأشهاد، والأنداء، وسطوة الأولياء، وشيء من سدر قليل.. حبيش حيث يرتسم الرفض على مخيلة الربوع، مُسطرًا صفحات مجللة بالإباء، ابتداءً من ثورة الإمام سعيد بن ياسين، وحتى حملة الوزير، وسنة الحدا..».

عناوين ذات صلة:

 

زر الذهاب إلى الأعلى