[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

يافع وسيئون: ملاحم خالدة في مواجهة الإمامة

بلال الطيب يكتب: يافع وسيئون: ملاحم خالدة في مواجهة الإمامة


توجس «المُتوكل» إسماعيل بن القاسم خيفة من طموحات أقاربه، ومن أطماع القبائل المساندة له، واستباقًا لأي طارئ قد يعترض مسار حكمه، وجه بداية العام «1055ه» جيشه القبلي المُنتشي بالنصر جنوبًا، وجعل عليه ابن أخيه الأمير الطامح أحمد بن الحسن، وقيل أنَّ الأخير رغبه في ذلك لمآرب ستتبدى تباعًا.

لم تكن الجولة الأولى للحرب لصالح «القاسميين»، خسروا مئات الأفراد، فأفرد لهم الحسين بن عبد القادر الجرهمي «صاحب عدن» مقبرة كبيرة احتوتهم، وسميت باسم قائدهم أحمد بن الحسن، فيما كانت الجولة الثانية لصالح الأخير، اقتحم عدن، ثم أبين، وأمر عساكره بقطع رؤوس مقاوميه، حتى وصلت إلى حدود رأس فرسه، ليعود بعد ذلك إلى عمه مزهوًا بالنصر، بعد أن جعل عليهما من ينوب عنه.

أما صاحبهما وصاحبه الحسين بن عبدالقادر، من آواه بالأمس طريدًا، فقد «لجأ إلى يافع، بعد أن علم أن ليس له عاصم ولا نافع» - حد توصيف صاحب «طبق الحلوى» - تاركًا أسرته رهينة، وأمواله غنيمة، وما هي إلا أشهر معدودة حتى أعاده «المُتوكل» إسماعيل لبلاده، حاكمًا عليها باسمه، وفي الأمير أحمد بن الحسن قال الشاعر جمال الدين علي البحيح:

النصر لاح على أيامك الغررِ
والسُعد بالفتح قد وافاك بالظفرِ
فانهض بعزم باسم الله مفتتحًا
أرض النواصب من سهل ومن وعرِ

وفي العام «1061ه / 1650م» رفض أهالي الشعيب دفع الجزية ل «الدولة القاسمية»، فما كان من الأمير محمد بن الحسن إلا أن وجه إليهم جيشًا قوامه «2,000» مقاتل، خضعوا له بعد أن رفض جيرانهم مساعدتهم، ثم أعلنوا بعد عامين تمردهم، أرسل إليهم ذات الأمير جيشًا آخر، هُدمت منازلهم، فاستسلموا مُجبرين.

خَطب السلطان بدر بن عمر الكثيري «صاحب حضرموت» ل «المُتوكل» إسماعيل مَطلع العام «1064ه»، وأشيع حينها أنَّه أصبح «زيدي» المذهب، بعد مُراسلات حدثت بينه وبين الإمام السابق محمد بن القاسم؛ الأمر الذي ألب عليه كبراء دولته، قبضوا عليه بمساعدة ابن أخيه بدر بن عبدالله، زجوا به في سجن سيئون، ونصبوا «ابن عبدالله» سلطانًا.

«الكثيريون» هم في الأصل «همدانيون»، ويرجع نسبهم كما أشار «الهمداني» إلى كثير بن شبيب بن قيس بن بكيل بن همدان، وهناك من يقول - وهو المشهور - إنهم سبئيون، وأن نسبهم يصل إلى كثير بن ضنه، أما علاقتهم ب «الإمامة الزّيدِيّة» فتعود إلى النصف الأول من القرن العاشر الهجري، حيث قام السلطان بدر بن عبد الله بن جعفر الكثيري «بو طويرق» بالاستعانة بالأتراك، فأمدوه بعساكر منهم، فأضاف إليهم بعض أبناء المناطق الشمالية، ورجالًا من يافع، ومن الموالي الافريقيين، ومن هؤلاء جميعًا تألف جيشه.

كان هذا السلطان حليفًا للأتراك، وحاكما باسمهم، ساندهم في حربهم ضد «البرتغاليين»، ونكل بالأخيرين في معركة الشحر الشهيرة «942ه»، أسر سبعين منهم، وأرسل بعضهم إلى «استانبول»، وحين تولى ولده عمر الحكم «990ه»، قال في الأخير الشاعر عبدالصمد باكثير:

قمتم بحق ابن عثمان وطاعته
محبة هي منكم عن أب فأبِ
كمثل ما أسرَ الإفرنج من قدم
أبوك بدر بن عَبْدالله ذو الحسبِ

وذكر «الجرموزي» أنَّ السلطان عَبْدالله بن عمر الذي حكم من العام «1021ه» إلى العام «1040ه»، كان مُتحالفًا كجده مع الأتراك، مُعارضًا ل «المؤيد» محمد بن القاسم، وأنَّه لم يقبل هدايا الأخير، وعلى عكسه كان أخوه بدر بن عمر الذي عارض حكمه وحكم ولده بدر بن عَبْدالله من بعده.

مع مطلع العام «1064ه» حشد «المُتوكل» إسماعيل أكثر من «10,000» مقاتل بقيادة ابني أخوه الأمير أحمد بن الحسن، والأمير محمد بن الحسين، وذلك لإخضاع المناطق الجنوبية حتى حضرموت، مُمهدًا لذلك بمراسلة المشايخ والسلاطين، وحثهم على الانضمام إلى دولته سلمًا.

استعد سلاطين ومشايخ الجنوب: علي الهيثمي، ومُنصر بن صالح العولقي، وصالح بن عبد الواحد الواحدي، وسالم بن حيدر الفضلي، ومعوضة بن عفيف، وعبدالله هرهرة، وبدر بن عبدالله الكثيري للمواجهة، وآثر الأمير أحمد بن شعفل السكون، فيما تولى حليفهم حسين بن أحمد الرصاص «شيخ البيضاء» قيادة المقاومة، وتنظيم حشودها التي وصلت قرابة «2,000» مقاتل.

خذل أغلب سلاطين ومشايخ الجنوب «الرصاص»، وتركوه وحيدًا مع أول مواجهة، نجح «القاسميون» في تطويقه ب «نجد السلف» من أكثر من اتجاه، فما كان منه إلا أن قاومهم حتى لقي حتفه، مثَّلوا بجثته، ثم حزوا رأسه وأرسلوه هدية للحضرة الإمامية، حلَّ شقيقه صالح مكانه، وقد انحاز الأخير بأهله وعشيرته وأنصاره إلى البيضاء، مُفسحًا الطريق للعساكر الغازية.

استقر الأمير أحمد بن الحسن بعد انتصاره بقلعة البيضاء، وإليه وصل السلاطين: مُنصر العولقي، وصالح الواحدي، وسالم الفضلي، والشيخ العمودي باذلين الطاعة مقابل الأمان، وفي الأمير المُنتصر قال أحد الشعراء مادحًا:

أما ترى كيف كان الأمر عاقبة
للمُتقين وعقبى الاشقياء الندم
وكيف كان بنجدٍ منظرهم
صرعى تزورهم العقبان والندم
حتى صفت بصفي الدين أرضهم
بأحمد خير محمود به الأمم

كانت «يافع العليا» الوجهة التالية، توجهت إليها قوات إمامية أخرى بقيادة الأمير محمد بن الحسن، رفض شيخها عبدالله بن علي هررة الخضوع ل «الدولة القاسمية»، واحتمى ومن معه بالشواهق العالية، وحين جاءه المدد من حضرموت بقيادة الشيخ سالم بن حسين الحسيني، تقطع لهم «القاسميون» في دثينة، ولم يكن أمام الشيخ هرهرة حينها من خيار سوى الصمود، على الرغم من قلة العدة، وضعف العتاد، وقد ساعده في صموده ذاك علي بن الشيخ سالم.

وتحفظ الذاكرة اليافعية عددًا من الأهازيج التي تؤرخ لتلك الفترة، وحين قال الشاعر الإمامي:

يا واد ذي ناعم توسع
لاجاك سيدي والمدافع
هذي السنة حسبة الله
نأخذ عدن وأبين ويافع

رد عليه الشاعر اليافعي:
يا مطرح الزاهر توسع
عادها با تقبلك يفاعة
با تقبلك تسعة مكاتب
با تأخذ الزيدي بساعة

نجح «القاسميون» في اقتحام جبل العُر بوابة يافع الشمالية، بعد أكثر من محاولة فاشلة، فيما فشل أبناء يافع في استعادته؛ بسبب كثرة بنادق الطرف الآخر ورصاصها الذائبة، وما أن علموا بوصول الأمير أحمد بن الحسن من البيضاء، ومعه حشد كبير من القبائل، حتى راعهم المشهد، فأعلنوا استسلامهم طالبين الأمان من صهرهم وحليفهم القديم.

دخل بعد ذلك جميع سلاطين ومشايخ الجنوب مذلة الخضوع ل «الدولة القاسمية»، ألغوا الدعاء في الخطبة ل «الدولة العثمانية»، وسلموا رهائن الطاعة، وألزموا بدفع ديات القتلى، وحق فيهم المثل القائل: «أكلت يوم أكل الثور الأبيض».

«سُلطان حضرموت» هو الآخر أطلق عمه من الحبس، وأعاد الخطبة ل «المُتوكل» إسماعيل، فيما وجه الأخير بإرسال السلطان المفرج عنه إلى ظفار واليًا عليها باسمه، لتتوحد بذلك اليمن للمرة الخامسة في تاريخها، إلا أنَّ تلك الوحدة تخللها خلال سنواتها الأولى تمرد في يافع، وثورة في حضرموت، وتقطع في أحور، وعصيان في بلاد الهيثمي والفضلي، وانفصال في ظفار.

طرد أبناء «يافع السفلى» عاملهم شرف الدين بن المُطهر حافيًا، وقتلوا «15» من عساكره الذين عاثوا في بلادهم نهبًا وخرابًا، أرسل إليهم «المُتوكل» إسماعيل ولده الأمير محمد بجيش قوامه «15,000» مقاتل جلهم من «حاشد، وبكيل»، لتبدأ مع وصولهم بحلول العام «1066ه» حرب عصابات كلفتهم الكثير، قاد تمرد «يافع السفلى» الشيخان «الناخبي» ومعوضة بن عفيف، هُزم الأخير، فطلب الأمان، وأخذ أسيرًا مدة، أما الأول فصمد وقتل عشرات العساكر جلهم من آنس، وحين استسلم طالبًا الأمان، قتله أبناء ذات القبيلة غدرًا - انتقامًا لقتلاهم.

عاث «الإماميون» في «يافع السفلى» نهبًا وخرابًا، استباحوها لخمسة أيام، و«أحالوا حلال أولئك القوم إلى غنائم مُباحة» - حد توصيف صاحب «طبق الحلوى» - وألزموهم بتسليم ما لديهم من أسلحة وحبوب، وقد صور أحد الشعراء الإماميين المشهد بهذا الزامل:

يا شيوخه حد العفيفي واجهي
ماليوم رعى الأرض لله والإمام
من داخل القبلة إلى سوق الغدر
كم هيه مناطق ذي ملك مشرق وشام

في تلك الأثناء تمردت قبائل «الأجعود، والحواشب، والصبيحة» بقيادة الأمير أحمد بن قاسم بن شعفل، وبدعم من الشيخ سالم بن حسين الحسيني المُحرض الأول والرئيس للثورات الجنوبية السابقة واللاحقة، وقد كانت للأخير سلطة روحية كبيرة على الجنوبيين بشرًا وحكامًا، أما «ابن شعفل»، فقد نجح «ابن الحسن» في استمالته، خامدًا ذلك التمرد لبعض الوقت.

وفي حضرموت توجه جعفر بن عبدالله الكثيري نهاية العام «1068ه» صوب ظفار، بإيعاز من أخيه السُلطان، استولى عليها، وطرد عمه منها، وقتل ابنه، ليرسل إليهم «المُتوكل» إسماعيل مع نهاية العام التالي ابن أخيه أحمد بن الحسن بجيش كبير، كادت صحراء مأرب أن تفتك به، فتم تعزيزه بجيش آخر عن طريق رداع، وقد شارك في تلك الحملة عدد من أبناء يافع.

استبقى الأمير أحمد بن الحسن حشدًا من عساكره في الطريق لحراستها، وتأمين وصول الإمدادات، وجعل عليهم محمد بن أبي الرجال، أرسل الأخير «20» فردًا إلى أحور، طالبًا من الأهالي جمالهم لحمل بعض المؤن، إلا أنَّهم رفضوا وفتكوا بالعسكر عن آخرهم، وحين توجه ذات القائد إليهم، اتبعوه ومن جاء معه بهم.

اجتاح الأمير أحمد بن الحسن حضرموت منتصف العام «1070ه / 1659م»، بمساعدة شيخ وادي «دوعن» عبدالله بن عبدالرحمن العمودي، وبعض المشايخ الذين راسلهم ورشاهم بمساعدة هذا الأخير، خذل «الحضارم» سلطانهم بدر بن عبدالله الكثيري، ولم يقاتل معه إلا خواصه، وقيل - أيضًا - عكس ذلك.

في رسالة بعثها «ابن الحسن» لعمه «المُتوكل» إسماعيل جاء فيه: «فما زال القتل الذريع فيهم، والأسر، واحتزت رؤوس كثيرة، لم نحص معرفة حصرها حال الكتاب، واشتغل الناس بالغنائم لأموالهم وسلاحهم وخيلهم، وانكسر السلطان وأولاده وأعوانه.. وقد أحببنا تعجيل هذه المسرة إليكم، والتفريج عليكم لما نعلمه من اشتغالكم بنا وبمن لدينا من المجاهدين، سيما بعد انقطاع الكتب بسبب الأعداء المتوسطين المترصدين».

لجأ السلطان بدر بن عبدالله الكثيري بعد هزيمته إلى أخواله بجبل «السناقر»، ومن هناك طلب لنفسه الأمان، فأعطيه، فيما أمر «ابن الحسن» بأن يزاد في الأذان «حي على خير العمل»، ومنع السكان من ترديد أذكار الشيخ عبدالله بن علوي الحداد، وسلم حضرموت لسلطانها «الزيدي» بدر بن عمر، توفي الأخير بعد سنتين بمكة، فحل مكانه أولاده محمد «المردوف»، ثم عيسى، ثم علي.

وبالعودة إلى أخبار الأمير أحمد بن الحسن فقد توجه في «شعبان 1071ه» لإخماد تمرد الشيخ حيدرة بن فضل الفضلي في أبين، بعد أن رفع الشيخ علي الهيثمي - داعمه في ذلك التمرد - راية الاستسلام، وحبس في كوكبان بأوامر من الإمام، وقد تحقق في صاحبه حيدرة بعد صمود محدود ذات المصير.

أما ظفار فقد استولى عليها سلطان بن سيف ثاني سلاطين «الدولة اليعربية» في عُمان، وهي سيطرة لم تدم كثيرًا، استعادها «الكثيريون» عام «1073ه / 1661م»، فجعل «المُتوكل» إسماعيل عليها الحاج عثمان زيد، ثم الشيخ زيد بن خليل «1079ه»، ليختلف ابن هذا الأخير مع أهاليها، قتلوا حوالي «20» من أصحابه، فأرسل «المُتوكل» عبده الحاج عثمان زيد واليًا عليها، ليتحقق في عهد هذا الأخير انفصال ظفار عن «الدولة القاسمية»، على يد السلطان عيسى بن بدر الكثيري الذي حكم لعام واحد فقط.

وفي العام «1081ه» قتل «الكثيريون» عساكر «قاسميين» كان قد أرسلهم الأمير الحسين بن الحسن لبعض المهام، بدأت حينها نزعة الاستقلال تظهر عند السلطان الجديد علي بن بدر الكثيري، وقال: «البلاد بلادي ومحلي»، ليتحقق في عهد منافسه سلطان الشحر حسن بن عبدالله بن عمر استقلال حضرموت عن «الدولة القاسمية» كما سيأتي.

عناوين ذات صلة:

الحوثيون وإشكالية الهوية
الخُمس: المظهر الاقتصادي للعنصرية العرقية

الوسوم
زر الذهاب إلى الأعلى