[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

الزرانيق مصارع الزنابيل: تفاصيل ثورة (1-3)

بلال الطيب يكتب حول الزرانيق مصارع الزنابيل: تفاصيل ثورة (1-3)


حجة، أرادها الطُغاة سجنًا، فحولها الأحرار إلى مُتنفس للحرية، من خلفِ أسوارها تسللت أفكارهم، ومن تحت ثَراها أزهرت أماني من قضوا نحبهم، جيء بهم من كُل اليمن، فصاروا أخوة في التُراب والمَصير. زرانيق تهامة كانوا الأكثر عددًا وتضحية، وفي مقبرة ما زالت تَحْمل اسمهم، ترقد أرواح 800 من أبطالهم بسلام، وفي حجة كما في تهامة أذلوا سجانيهم، وقاتليهم، وعلمونا مَعنى أنْ يكون المَرء سَيد نَفسه.

بعد حرب مُتقطعة بينه وبين الأدارسة، واستمرت لسبع سنوات، تمكن المتوكل يحيى حميد الدين من السيطرة على الحديدة 27 مارس 1925م. تصدت قبائل الجرابح لقواته بالزيدية - شمال ذات المدينة، وحدثت هناك معركة كبيرة، كان النصر فيها حليف القوات الإمامية، وبسقوط تلك القبيلة سقطت تهامة كلها باستثناء أراضي قبيلة الزرانيق المُمتدة من الحديدة حتى زبيد.

نشوة النصر جعلت السيف أحمد يحيى حميد الدين - أمير حجة حينها - يُرسل إلى الزرانيق بحوالي 50 مُقاتلا، وقيل أكثر، بقيادة حسين بن عامر، مُتناسيًا أنَّها استعصت على من قبله من الأئمة، ولم تخضع للإمام المطهر شرف الدين - قبل ثلاثة قرون - إلا باتفاقية صلح، وبعد أنْ حاربها لأربع سنوات.

حتى الأتراك أنفسهم لم يستطيعوا إخضاعها، كانوا يغضون الطرف عنها، ويُصبغون على كبرائها بهدايا الصداقة، فكيف بقوات السيف أحمد المُنهكة، وميزانيته الضئيلة. وما أنْ اقتربت القوات المُتوكلية من تلك الأرض المحظورة، حتى قام أصحابها بقتلهم جميعًا، وفي يوم عيد الأضحى ذي الحجة 1343ه / يوليو 1925م.

المدونات الرسمية المتوكلية أغفلت ذكر تفاصيل تلك الحادثة، واسم قائدها؛ خوفًا من تجسيم خطورة الزرانيق، وحتى لا ينتشر الرعب حينها بين القادة والأنصار، وكذلك فعل المُؤرخ الواسعي الذي أشار إلى ذلك القائد بوصفه السيد الفاضل، صحيح أنَّ المُؤرخ زبارة ذكر الاسم فيما بعد، إلا أنَّه - هو الآخر - لم يتعمق في التفاصيل أكثر، وقد نقل الأخير عن سيف الإسلام أحمد، قصيدة رثى بها القائد الصريع، وطغى على رثائه تجسيم التمرد، وتشبيهه بتجمع الأحزاب، وتحريض الناس للجهاد، وقال في مطلعها:
الله أكبر هذا فادح جلل
أصاب أهل الهدى من جوره الخطل
الله أكبر هذا الفرق قد جمعت
أحزابه وأتت كالنار تشتعل

وجود القوات الإمامية في تهامة مَثَّل شوكة في خاصرة قبيلة الزرانيق، ولأنَّ أبناءها شرفاء ألفوا الحُرية، أعزاء لا يرضون الذُل، استعدوا لمعركة التحرير جيدًا، وحين صاروا قادرين على المُواجهة؛ وبعد أنْ بلغت قواتهم المُدربة حوالي 10,000 مُقاتل، ما يقارب 10% من إجمالي سكان القبيلة آنذاك، أعلنوها ثورة شاملة، وذلك صيف العام 1928م.

في البدء قاموا بعدة عمليات هجومية على الثكنات العسكرية القريبة من مناطقهم، نهبوا عتادا عسكريا ومؤنا تكفيهم لمدة أطول، وقطعوا الطرق، وخطوط التليغراف، وحين وصلت أيديهم إلى الحديدة، وتمكنوا من إبادة حامية عسكرية بكاملها في القرب من قرية المنظر المجاورة لذات المدينة؛ أدركت السلطات الإمامية خطورتهم، فبادرت بإرسال حملة عسكرية تأديبية بقيادة هاشم الدعاني، إلا أنَّ أبناء الزرانيق بقيادة الشيخ أحمد فتيني جنيد تصدوا لها في قرية كتابة، وقتلوا قائدها.

يتهم المُؤرخون الإماميون الشيخ فتيني بأنَّه استدرج تلك الحملة إلى أدغال الزرانيق، بعد أنْ رحب بأفرادها، وأوهم قائدها بإظهار الطاعة، وهي رواية مشكوك في صحتها؛ خاصة وأنَّ الشيخ المتهم رفض حينها عرض الإمام يحيى بتعيينه حاكمًا على تلك النواحي.

أمام ذلك الإرباك، لم يَجد الإمام يحيى المشغول حينها بتثبيت دعائم ملكه سوى ولده سيف الإسلام أحمد أمير حجة، ومُذل حاشد، ورجل المهمات الصعبة - كما نعته المؤرخون الإماميون - لإرساله لإخماد تلك الثورة، وتأديب من أشعلوا فتيلها، خاصة وأنَّ الحملات السابقة قد فشلت ولم تؤتِ أكلها.

ما أن يُخضعوا قبيلة إلا ويَرمون بها أُخرى، ديدن الأئمة السلاليين على مَدى تاريخهم، وحين استعصت عليهم حاشد مطلع عشرينيات القرن الفائت، أوقعوا الفتنة بين قبائلها، ثم انقضوا عليها، سَلبَوا، ودَمرَوا، وقَتَلوا، وهَجرْوا، وألزموا مواطنيها بأحكام الشريعة، وتوريث النساء، حد توصيف المُؤرخ الجرافي، مات بعض مشايخها في سجن غمدان؛ فاضطر الإمام يحيى أن يُفرج على من تبقى منهم، مُكتفيًا بأخذ أبنائهم كرهائن.

جاء السيف أحمد، وقاد رعايا حاشد المهزومين صوب تهامة أكتوبر 1928م، ضمن جيش عرمرم تجاوز عدده الـ10,000 مُقاتل، سبق وجهزه لكسر شوكة قبيلة الزرانيق العاتية، وكان تحركهم إلى تلك الجهة وهم يرددون زوامل حرب شنيعة، نقتطف منها:

يا عباد الله قوموا للجهاد
واضربوا من كان مُفسد في البلاد
وانصروا ابن الإمام

ومنها:
جاك سيل الله يا صاحب تهامة
مقدم السيف المظلل بالغمامة
نضرب الزرنوق في داخل خيامه
راعد القبلة ورد شرفا وجرمل

قسَّم السيف أحمد تلك القوات إلى فريقين، فريق تسلل من جبال ريمة، وآخر توغل من أطراف زبيد، وما أنْ استقر في المدينة المذكورة، حتى أرسل لمشايخ الزرانيق برسالة جاء فيها: "ونحذركم الخلاف، والتنكيب، والاعتساف، وسفك الدماء، وإثارة الدهماء، فإن سلكتم طريق الصواب عاد جوابكم بالوصول، وإنْ اخترتم طريق الشيطان فهذا بلاغ".

في حوار صحفي أجري معه، ونُشر قبل وفاته، قال الإمام أحمد كلامًا كثيرًا عن الزرانيق، الاسم الكابوس الذي ظل يورقه طول حياته، واصفًا إياها بالقبيلة العاتية، وأبطالها بالخناذيذ، وهم حسب حديثه خرجوا عن طاعة أبيه، وقطعوا الطرق، وانتهكوا الحقوق، وأخذوا الإتاوات، وأغاروا على مدن تهامة، ومراكزها، لا يخافون سلطانا، ولا يردعهم رادع.

وأضاف: «عاثوا، أفسدوا، وكثر تعديهم على المراكز الإمامية، واستشرت أطماعهم، واشتطت مطالبهم، واعتقدوا أنَّ أي قوة لن تقوى عليهم، لذلك كان من الأنجح الفتك بهم، والقضاء على شرهم، قضاء حاسمًا، خصوصًا بعد أنْ استهانوا بالوزير أولًا - يقصد عبدالله الوزير - وبالبدر ثانيًا - يقصد أخاه أمير الحديدة حينها، والذي مات فيما بعد غرقًا - أثناء نيابتهما عن الإمام بالحديدة، فعلق الإمام يحيى بقوله: ولا أدري من يرجى لأخذنا للثأر، قلت: أنا لها يا مولاي، أنا الذي بصارمك البتار أكفيك أمرها، وأفتك بها كما فتكت بغيرها».

ثم يمضي الإمام أحمد في ذلك الحوار الطويل، مُتحدثًا بزهو عن ماضيه الأسود، وعن خططه العسكرية، شارحًا تفاصيل المواجهات الأولى، وهو رغم اعتزازه بنفسه، أشاد ببطولة الزرانيق، وشراسة مُقاتليهم.

تهامة البسيطة المتواضعة، أنجبت أبطال الزرانيق الأفذاذ، كانت قبيلتهم تسمى في الجاهلية بأزد شنوءة، وكان رجالها ينعتون بعمالقة الصحراء، ولم تعرف باسمها الخالد الزرانيق إلا في القرن السابع الهجري، نسبة لزرنيق بن الوليد بن زكريا، الذي يصل نسبه إلى عك بن عدنان، وتنقسم إلى قسمين، زرانيق الشام وهي المناطق الممتدة من شمال بيت الفقيه، مُرورًا بالمنصورية، وصولًا إلى تخوم ريمة، أما القسم الجنوبي، فيمتد من جنوب بيت الفقيه، إلى منطقة القصرة.

ماضي أبناء الزرانيق كحاضرهم، مُشبع بروح المقاومة، وهم أهل البلد خَبروا السهل، وأجادوا ترويضه، فيما الإمامي البغيض، القادم من أعالي الجبال، جاء بانتفاشة كاذبة، مُعتقدًا أنَّ السهل سهلٌ، وأنَّ أهل السفح سواء؛ فكان تبعًا لغروره صيدًا ثمينا لعدة كمائن مُتقنة، وغارات ليلية ناجحة، وحين حصر الضحايا، الذين تجاوز عددهم - كما أشار المؤرخ الواسعي - الـ1,000 قتيل، أدرك الإماميون أنَّهم ااقتيدوا إلى مَتاهة مُوحشة، الخروج منها كما الدخول، كلفهم أيضاً الكثير، والأسوأ أنَّها جعلت سمعة قائدهم المغرور في الحضيض.

دارت أولى المواجهات في منطقتي الجحبا العليا، والجحبا السفلى، لم يتقدم حينها السيف أحمد كثيرًا، وكان يناوش مُقاتلي الزرانيق من بعيد، وهو رغم ذلك لم يجنِ من مقاتلي الإمام المَهزومين سوى الهزائم المتتالية، وما آلمه أكثر، انسحاب مقاتلي قبيلة حجور وهو في أمس الحاجة إليهم، وقيل إنَّهم لم يشاركوا في تلك الحرب؛ الأمر الذي أغضبه، فهجاهم بقصيدتين طويلتين، جاء في إحداها:

كلما رمت أن تجود حجورُ
بان خسرانها وآل الدبورُ
قدموا أولا بجحفل جيش
ليس يأتي بوصفه التعبير
ثم فروا فرار قل و ذل
وتناهوا عن الجميل فغوروا
فأردنا تعديل ذلكم الميل
عسى يستوي لهم تدبير
فتولوا عن الجهاد وصدوا
عن سبيل عند الملا مشكور

لحظات عصيبة عاشها أحمد بن يحيى، وهو الذي لم يُهزم في معركة قط، والمُستبد الذي لم يركن حتى لاستشارة أقرب مُعاونيه، وبعد أخذ ورد بينه وبين نفسه، لم يَجد سوى البحر كخيار مُكلف ومُنقذ لغروره، فمن هناك يأتي الدعم الإنجليزي للزرانيق كما يعتقد، وإلى هناك تسلل بقواته، في البدء أسقط ميناء الطائف، وبعد محاولة فاشلة، وأخرى ناجحة، احتل ميناء غليفقة الذي أهمل الزرانيق تحصينه، وصادر جميع سفنهم، ومراكب صيدهم.

بسقوط ميناء غليفقة فقدت مقاومة الزرانيق زخمها، وهو الأمر الذي أجبر قائدها الشيخ أحمد فتيني جنيد على الالتجاء للمعسكر الإنجليزي في جزيرة كمران، مُنيبًا عنه الشيخ محمد حسن الفاشق، ومن هناك طالب فتيني الإنجليز بدعم قبيلته في نضالها ضد الإمام يحيى وأعوانه، كما أنَّه - وكما أشار المؤرخ العرشي - طالب بحق تقرير المصير، وناشد «عصبة الأمم» بالتدخل لإنهاء ذلك الصراع.

أمام ذلك التصرف الفتيني صار جميع ثوار الزرانيق - من وجهة نظر الإماميين - بلا استثناء عملاء للانجليز، وراحت السلطات الإمامية تشنع عليهم، وتحتقرهم بأقذع الصفات، رغم أنَّهم سبق وثاروا ضد الإنجليز، وكانوا سبب خروجهم من الحديدة في 21 مارس 1921م.

في كتابه «اليمن الجمهوري»، استبعد عبدالله البردوني تلك التهمة عن أبطال الزرانيق، مُضيفًا: «فمن الجائز أن يكون الفتيني مُتآمرًا، أو مُستعينًا بالانجليز، لغياب أي نصير»، وغير بعيد قال تشرشل: «لا يضرنا الاستعانة ولو بالشيطان»، والغريق في النهاية لا تهمه جنسية من ينقذه.

وفي المقابل قال المُؤرخ التهامي عبد الرحمن طيب بعكر في كتابه «كيف غنت تهامة» أنَّ دعم الانجليز لقبيلة الزرانيق لا يستنقص من أبطالها، ولا يعني أنَّهم عملاء، مُعتبرًا تمسح الانجليز بذلك؛ للضغط على الإمام يحيى حينها؛ كي يتخلى عن المحميات التي احتلها في الجنوب.

زر الذهاب إلى الأعلى