[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
اهتمامات

عن المثقف اليمني في زمن الحرب

عبدالله شروح يكتب عن المثقف اليمني في زمن الحرب


مثل كلّ شعوب الأرض، يتوفّر شعبنا على مثقفين. ومثل كلّ حروب الدنيا، فإن حربنا هذه قد ألقَت ببعض مثقفينا إلى خارج حدود البلاد وأبقَت على البعض الآخر.

وإنّه لمن الثابت أن انتصار الشعوب على تهديداتها الوجودية دائماً ما يكون رهناً بنوعين من الكفاح أحدهما يعتمد البندقيّة والثاني يعتمد الفكر. وإنّ مسؤولية القيام بالنوع الثاني تقع على عاتق المثقفين، مثقفي البلد المنكوب، والّذين لا بدّ وأن تسير جهودهم بالتوازي مع البندقيّة بل إنّهم معنيّون بإضفاء البصيرة على الرصاصة بما يضمن انطلاقها في الدرب الأقصر إلى الغاية، الدرب الكفيل بأن يحيي في النّهاية عِوض أن يُميت.

انطلاقاً مما سبق سيكون جيّداً إلقاء بعض الضوء على جزءٍ من أداء مثقفينا في هذا السياق.

على أنه يتوجّب علينا قبل ذلك أن نضع تعريفاً للحرب وآخر للمثقّف بما ينسجم وطبيعة الموضوع. فأمّا الحرب فإن أفضل تعريف لها هنا: أنّها حالة الفشل الجمعيّ الأكثر هولاً. ففي حين الغاية من الاجتماع البشريّ تحقيق أكبر قدرٍ ممكنٍ من الحياة للمجموع، من الإعمار، من الارتقاء الحضاريّ، وهي الغاية الّتي ينال منها المجموع بحسب انسجام تفاصيله وبمقدار قيام كلّ فئةٍ بواجبها وكلّ فردٍ بما عليه، فإنّ حدوث الحرب، بما هي من انحدار فظيعٍ ومخزٍ من كلّ القمم الإنسانيّة إلى التوحُّل بالوحشيّة والتقلّب بمستنقع الموت، هو إقرار المجتمع بفشله الذريع، فشل تتحمّل كل الفئات نصيباً من مسؤوليّته.

وإذا أقررنا بأن الحرب لا تنبثق فجأة وإنّما تأتي كانفجارٍ لتراكمات كثيرةٍ مديدةٍ، فإن هذا سيفضي إلى الإقرار بأن أكثر الفئات استحقاقاً للّوم، حين تشتعل الحرب، هي الفئة المثقّفة. ذلك أنّها دماغ المجتمع، وبالتّالي فهي من كان يتعيّن عليه ملاحظة الفشل في مراحله الابتدائيّة والعمل من حينه على تلافي انفجاره النهائيّ فناءً وحرباً.

وحين نتحدث هنا عن المثقف، مثقف بلادنا المعني بهذه الكتابة، فنحن نقصد كلّ من توفّرت له من المعارف، من المحفوظات، ومن القدرة على التأثير، ما يجعل لرأيه وزناً معتبراً لدى الجماهير.

على أنّ التعريف الأصدق لمصطلح المثقف، من وجهة نظري، هو تعريف قرأته في زمنٍ سابقٍ واقتنعتُ به: أنّه من يحمل الحقّ في وجه القوّة. إذ لا بدّ للمرء من صبغ معارفه بأخلاقيّةٍ ما، والأخلاقيّة الّتي يستأهل معها من حظي بقدرٍ من المعارف لقب مثقف هي الميل الصريح والمنفعل لتثبيت الحقّ وفرض وتوكيد الحقائق بمختلف الظروف، سيّما في الفترات التي يكون فيها الحقّ عرضةً لنزوات القوى الباطشة ولدأبها الأثير لتحريفه في الوعي الجمعيّ بما يضمن تحقيق رغباتها السلطوية.

ويكون المثقف أكثر جدارةً بهذا التوصيف بقدر ما يكون واضحاً في نضاله ضدّ إرادة التزييف، وبقدر ثباته.

والحقيقة أن التأريخ البشريّ ما هو إلا سِجلّ طويل يعرض مأساة اصطراع الإنسان مع الإنسان، وأن تأريخ أيّ شعب ما هو إلا ما تختزنه ذاكرته القومية من مسيرته الممتدة منذ زمنٍ غابرٍ، زمن الأجداد الأوائل، بما تحوي من ملامح نضال ضدّ القوى الغاشمة الّتي عبرته، حتى زمنه الحاضر.

وبالرغم من أنه قد تمرّ فتراتٍ من الصراع يتّصف بها مفهوم الحقّ بالضبابيّة إلا أن الثابت أن الحرب، أي حرب، تحوي طرفاً على الأقلّ يكون هو الضحيّة ويشكّل في ذهنيّة باقي الأطراف الغنيمة الّتي سيظفر بها المنتصر، أو المنتصرون.

وإنّ حقيقةً ناصعةً أخرى بإمكاننا نخبر بها هنا دون أن نكون مجازفين، تتعلّق في كون تأريخ شعبنا يأتي ضمن أكثر التواريخ القوميّة مأساويةً. إنّه تأريخ مثخن ومروّع على نحوٍ بالغ، سيّما في حدود الخمسة عشر قرناً الأخيرة.

ولأنّ الحرب تمثّل النشاط البشري الأغنى تفاصيلاً، فإنّ صفةّ مهمّةً يجب أن يتحلّى بها المثقّف المعنيّ بها، إضافةً إلى إخلاصه وسلامة طويّته، وهي صفة الحذق. إذ أنّ الحرب، كجزء من مفاعيلها، تثير غُباراً يستحيل إلى ستارةً رماديّةً كثيفةً وهائلةً تجعل الأغلب بالكاد يتلمّس طريقه فيها تلمّساً. والمثقف، كغيره من المحتربين، لا يغدو بعيداً عن خطر الانحراف إلا بقدر ما لديه من بصيرةٍ تتعدّى إفصاحات البصر.

وإن عدداً من القناعات تبقى حارسةً لنضال المثقّف، تحفظ خطواته من الزلل، أهمّها: أحقيّة الإنسان، كلّ إنسان، بأن ينال حريّته ضمن مجتمعه وضمن العالم. وأنّ الأوطان، مهما واجهت من تحديات، لا يمكن في الأخير إلّا أن تصير إلى أهلها. فموازين القوّة تتغيّر، بينما ارتباط الشعوب بهويّتها وترابها يكاد يكون ثابتاً.

إنّ بداية انحطاط المثقّف تأتي من استسلامه لتيّار التفاصيل الهادر، التفاصيل التي من شأنها تضبيب طريقه ليبقى حبيس الراهن. يغدو أسيراً لقشرة عقله التي تحيله لنوعٍ من الحواسيب الرديئة، تذوي روحه ويضمر حسّه بالانتماء ليحلّ محلّه البؤس والسوداويّة. يخضع لمنطق الأرقام فلا يعود يرى القوّة في عدالة قضيّة أهله وشعبه وإنّما في فارق العتاد. ومن هنا ينزاح المثقّف في الوقت الّذي شعبه وقضيته بأمسّ الحاجة لفاعليّته ونضجه، ينسحب إلى حيّز الخمول إن لم يتحوّل إلى حجر عثرة كبيرة.

والشعوب في نضالاتها الحاسمة لا تحتاج من مثقفيها أن يخبروها كم أنّ عتادها ضئيل وكم أن فرصها الحاليّة للانتصار تكاد تكون معدومة. إنّها تريد منه، وهي في ذلك على صوابٍ، أن يكون صوت قضيّتها للعالم، والضمير الّذي يهمس في روعها، كلّما اشتدّ عليها البأس، بأنّها حتماً ستنتصر، وأنّ الطغيان، مهما عظُم، إلى زوال.

والمثقّف حين يقوم بهذه المهمّة، الّتي هي حينها مهمّته الحقيقية والوحيدة، إنّما ينفي بذلك عن نفسه الببغاويّة والسطحيّة والمكننة. لا يعود مجرّد حاسبٍ آليٍّ يتعامل مع البيانات بصرامة المنطق الماديّ وحسابات القوّة المجرّدة، وإنّما يتسامى على هول الواقع وإفصاحاته الماديّة الآنيّة محلّقاً في سماوات الروح والسّنن الّتي لا تخطئ، السُّنن الّتي قد لا تتحقق فقط بنضال جيلٍ أو جيلين.

إنّه يعرف أنّ القوّة كأس دوّارة، لا تستقرّ في كفٍّ إلى الأبد، وأن واجبه الأخلاقيّ، حين يخضع شعبه لمحاولة استئصالٍ، أن يظلّ حارساً لانتماء هذا الشّعب لترابه وأدبيّاته وهويّته، وأن يُذكي الرّوح النضاليّة لشعبه بما يكفي ليتغلّب بحماسته، حماسة الفعل المقاوم، على فارق الإمكانات المعادية.

إن غاندي لم يكن أبلهاً حين انطلق يلمّ شعث شعبه ليقاوم المحتلّ انطلاقاً من اللا شيء. لقد أدركت عبقريّته بوضوحٍ مُطلق تلك المعادلة الّتي تختفي وراء ظواهر الأشياء، تلك السُّنن الدائمة الّتي لا تصمد أمامها حسابات المنطق اللحظيّ. ولأنّ للشعوب، مهما كانت بسيطة، ذاكرتها ووجدانيّاتها، الذاكرة والوجدان الكافيين لتمييز الأفعال الخارقة لأبنائها وتمجيدها، فإنّ الشعب الهنديّ لم ينتظر طويلاً ليجعل من غانديهِ رمزا.

والمثقّف لا يحتقر شعبه، لا يظلّ يحصي له مساوئه في الفترة التي يحتاج تعداد مزاياه وتدعيم كبريائه. إن زبيريُّنا العظيم حين اضطرّته مسيرته النضاليّة ليذوق جحيم المنفى _حيث وأن النفوس السويّة تظلّ ترى المنافي جحيماً كيفما كانت_ بعث أشواقه إلى وطنه وشعبه بأبياتٍ تضعنا أمام عبقريّة روحه وجماليّة نضاله:

ما كنت أحسب أني سوف أبكيهِ
وأن شعري إلى الدنيا سينعيهِ

وكنتُ أحرص لو أن أموت له
وحدي، فداءً، ويبقى كلّ أهليهِ

إنّ نضال المثقّف من أجل قضيّة شعبه لا بدّ وأن ينطلق أوّلاً من صدق عاطفته تجاه الوطن والشعب، وإلّا فإنّه نضال أجوف لا يستحقّ الاحترام، وفي مراحل كثيرة يغدو عامل هدم لا ركيزة بناء.

وإنّ هذه الروح هي ما تعوز الكثير من مثقفينا. وكم يغدو صادماً حين لا يتورّع أحدهم عن التصريح بأن الحلّ لهذا الشعب لم يعد سوى بأن ينفض عنه أحلامه الجمهورية وأن يبحث عن أسرة يملّكها عليه، وآخر يتحدث بوثوقيّة مستبسلة عن كون صنعاء غدت فارسيّة، وثالث يرى أن بقاءه رهن اجتراع البيرة أجدى من المشاركة في هذا النضال، ورابع يتحدث عن كون هذا الشعب غير جدير بأن يضحّي من أجله بأيّ شيء، و...

والحقّ أن أمثال هذه النماذج أكثر من أن تُحصى، وهي تؤكّد أن الحرب لا تمضي إلى مجتمعٍ إلا عبر هشاشة نُخَبِه.

لا أحد يجهل هول المأزق الّذي يعانيه شعبنا اليوم ومنذ سنوات، مأزق انطحانه بين كيانٍ كهنوتيٍّ مدججٍ بكلّ ما هو أداة للقتل وشرعيّة جُلّ رجالاتها من الطغمة الّتي ثار عليها في أمسٍ قريبٍ وتحالف يفتقر لكلّ ما يجعله حليفاً، لا أحد يجهل هذه الملامح الكارثيّة لما نحن عليه، وهذا بالضبط هو ما يستدعي أن يتحلّى المثقّف اليمنيّ اليوم بتلك المزيّة الكفيلة وحدها باستحقاقه توصيف المثقّف: أن يحمل الحقّ في وجه القوّة، أن يكون عامل ابتعاث ومحفّز حماسة لا صوتاً للإرباك والتيئيس.

على أنّه يظلّ هناك من المثقّفين من اضطلعوا بمسؤوليّتهم وما يزالون. وإنّه لمن المضحك أنّ هؤلاء سرعان ما غدوا عرضة لبهلوانيّات الفريق المفعم باليأس، فهم من وجهة نظر هذا الفريق: شعبويون، غنائيّون، يفتقرون للعُمق!

 

زر الذهاب إلى الأعلى