[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
اهتماماتدراسات وبحوث

الشهيد جمال جميل العراقي: الإسراع بالثورة (4)

يحيى حمران يكتب: الشهيد جمال جميل العراقي: الإسراع بالثورة (4)


كانت المنشورات الناقدة والصحف المرسلة إلى صنعاء، والجلسات في دواوين المقيل التي انتشرت بحذر بالغ في عدة أحياء داخل سور مدينة كانت في ما مضى حاضرة من حواضر الأمم، تنافس عواصم كبرى امبراطوريات العالم "فارس والرومان"، ولم تُسمَّ صنعاء الا لحسن صناعتها وقوة تحصينها، ومن أين لصنعة ان تشتهر وتصبح ماركة عالمية في زمن لم يعرف وسيلة للتواصل والنقل غير الخيل والبعير والسفن الصناعية الصغيرة لولم تكن تحظى بحضارة عظيمة ومجتمع يمجد التعليم، يتمتع سكانها بحرية التصرف وكرامة الذات، حتى اصبحت في زمن الكهنة وأحفادهم واحقادهم أشبه بابنة ملك أسرها قاطع طريق على حين غفلة من أهلها، أسرف في ضربها وغللها بالقيود ما أثقل كاهلها المربوط بسكك مغالق الإذلال الدامية لمعصمها الفتي، فاستلقت وقد انهكها الإعياء على قلب فضاء واسع بنصف ورك ومرفق وهي تصارع غمراتها خشية أن تسقط.

لقد شد المستبد من وثاق قدميها لئلا تنهض أو تتربع بكبرياء وشموخ، غير مدرك لنبض قلبها العامر بالعلم والثقافة والطرب الأصيل، قد تحول إلى ضوء في جبينها المتحرر من قيود الكهنة فعانقت السماء بارادة لا تنضب وعزيمة لا تلين، فوق مستوى فهم المشعوذين وقدرتهم على الطمس، حتى تحولت مجالسها تلك بفضل تضحيات الأحرار وجلدهم الصلب إلى منتديات سياسية، ألهبت حماس الثوار وهم يستمعون إلى قوة منطق وإرادة الخارجين من السجن، وتطلعاتهم إلى تغيير الوضع، وهكذا تصاعد الوعي وارتفع سقف مطالب الأحرار.

كانت أعداد الأحرار تزداد في تعز وإب وصنعاء. ومن ضمن الثوار الذين عانوا وكابدوا نتيجة مواقفهم إلى جانب من ذكروا آنفا الأستاذ المربي الكبير محمد المحلوي أول شهداء الحرية وقد توفي في عام 1935 عقب خروجه من سجن الطاغية، يحيى وكذلك الشيخ الشهيد حسن الدعيس والشيخ جازم الحروي والقاضي الشهيد عبدالله العزب الذي توفي مسموما قبل ثورة الدستور، والقاضي أحمد المعلمي والقاضي الشماحي، وآل الرويشان وآل أبو لحوم وآل الشايف وآل دماج والشيخ الطاعن في السن محمد حسان وآل العنسي والشهيد زيد الموشكي وآخرون سيأتي ذكرهم.

لم تأت فكرة تشكيل الدستور الذي ساعد في إعداده "وتشكيل ما نتج عنه من حكومة ومجلس شورى" الجزائري الفضيل الورتلاني بعد نقاشات مع الأحرار والشهيد جمال جميل العراقي، إلا بعد مراحل من استقطاب الشخصيات الأكثر تأثيرا ومراحل عدة من الوعي الذي أصبح اذاك، كابوسا مفزعا للمستبد وأركان عصابته.

نظرة صائبة

عندما فاتحوا الشهيد جمال جميل بنيتهم التعجيل بالامر وجدوا أنه لا يقل حماسا عنهم ليوم الثورة، التي ستخلص الشعب من كل هذا العبث والاستغباء الفردي على مستوى أفراد السلالة الإمامية، لكنه طرح أمامهم عواقب ومخاوف لا يمكن تجاوزها إلى إعلان الثورة قبل دراسة نتائج تجاوزها، فقال لرفاقه: "القبائل متمسكون بالإمام ويعتقدون أنه مقدس، وغالبية المجتمع في المدن الرئيسية ليس مؤهلا لا فكريا ولا نفسيا لتقبل فكرة الثورة والأفكار الحديثة".

والحقيقة أن ملاحظاته كانت في صميم الواقع الذي ينبغي أن لا يتجاهلها عاقل، فكان الناس يطلقوا على الاحرار عدة تهم منها على سبيل المثال "درادعة" وهي طائفة من يهود اليمن، بغرض تشويه الأحرار وتصويرهم للناس على أنهم يسعون إلى تولية يهودي الحكم بدل الإمام دعي القداسة والقرابة النبوية زورا.

اقترح الشهيد جمال جميل أن تسبق الثورة حركة توعية مجتمعية للقبائل المحيطة بصنعاء، أكثر من الجهود المبذولة سابقا، فاقنعوه أن هنالك مشائخ قبائل في صف الثورة فقال "أعرف هذا"، وأراد أن يستطرد القول فقاطعه الأحرار "أنت شخص لك ماضيك العسكري في العراق وشاركت في الثورة وحكم عليك بالإعدام، ولك مكانتك عند الشباب العسكريين في المدرسة الحربية وجميع الضباط الشباب ملتفون حولك".

وكانت مسألة الترتيب مع القبائل لا تقل أهمية عن الترتيب مع المثقفين، كون المجتمع اليمني يسعى إلى مناصرة ما يؤمن به دون دافع أو تحريض، وفي ذلك الزمن كانت القبائل تؤمن بالخرافات، ومن السهل تحشيدها تحت تأثير الفقر والجهل والخرافات المنمقة باسم الله ورسوله، فعاجله أحدهم بالقول "أنت رجل شجاع وبطل، فهل جبنت الآن لأنا نطلب منك مساعدة الشعب اليمني". فلم يكن أمامه بدٌّ من القول "إذا كنتم تعتبرونني جبانا فهذه يدي ممدودة الآن أساعدكم وأكون معكم وأنا أول واحد ومثل ما تقولوا قدحنا بالوسط".

خطة الخلاص

فبدأ الرئيس بتجهيز ما يلزم لحماية صنعاء في حال حدثت أي مقاومة أو هجوم، وبدأ الثوار بإعداد الخطة حيث أوكلوا مهمة التخلص من الطاغية يحيى إلى الشيخ علي ناصر القردعي ومعه الشيخ محمد قايد الحسيني ورفاقهم، كما تم تكليف العقيد حمود الجائفي والنقيب حسين بن صالح الشائف والشيخ محمد بن حسن أبو راس والنقيب محمد بن حسن غالب ورفاقهم بالتخلص من ولي العهد أحمد في تعز.

وفي يناير 1948 كان الزبيري والنعمان ومن معهم من الأحرار في عدن ينتظرون الإشارة بنجاح عملية قتل الطاغية يحيى وولده أحمد، التي كانت ستأتيهم عبر عمال تجارة الخادم غالب الوجيه في عدن، من أجل "إعلان الوثيقة وأسماء أعضاء الحكومة الدستورية ومجلس الشورى والامام الجديد"، لكي تستكمل الامور حسب الخطة بدون سفك مزيد من الدماء، فانطلت عليهم خدعة دبرها الطاغية أحمد حيث كلف أمير لواء الحديدة بالتعاون مع وكيل بريطانيا التجاري، إرسال برقية تقول إن الإمام يحيى قد مات ميتة مشبوهة وبموجبها أرسل والي عدن مندوبا إلى إبراهيم بن الإمام يحيى يعزيه بوفاة والده وكان إبراهيم قد لحق بالزبيري والنعمان والبراق ومن معهم إلى عدن خارجا من طاعة والده.

وقبل أن يتحقق الثوار ويتثبتوا عبر رفاقهم الذين تأخرت إشارتهم بنجاح الفعل المتفق عليه، اطمأنوا إلى تلك البرقية المشؤومة وسارعوا إلى نشر الميثاق المقدس "الدستور " وفيه أسماء كل الأحرار وكذا الحكومة الدستورية ومجلس الشورى والإمام الجديد، عبر الصحف، فسبب ذلك هلعا وارتباكا في صف الأحرار داخل اليمن، وقد سارع عبدالله الوزير (المتفق عليه إماما بموجب الحركة)، إلى نفي علمه بذلك مهاجما الثوار ومتهما إياهم بمحاولة "إغراء الامام ضد رجاله المخلصين".. وكان عدد من الأحرار غير مطمئنين لتولية الوزير متعللين بتردده المستمر.

لم يكن أمام الثوار غير التعجيل بالفعل الثوري وتنفيذ الخطة التي لم تكن قد كشفت، وحددوا يوم الأربعاء لتنفيذها، ولكن الشهيد علي ناصر القردعي قد لحظ تملص عبدالله الوزير وبعض المقربين من الإمام عقب نشر الميثاق وأسماء الأحرار فطلب فتوى معمدة من العلماء بإجازة قتل الطاغية يحيى، وقد أعطاه عبدالله الوزير فتوى مكتوبة ما تسبب ذلك في تأجيل العملية إلى الأسبوع التالي.

يتبع في الحلقة القادمة..

التخلص من الطاغية يحيى وقلق وانتظار الأحرار والشهيد جمال جميل للأخبار، وكيف تمكن الطاغية احمد من النجاة وكيفية إدارة الرئيس جمال جميل للوضع الحرج.

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى