[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
شعر وأدب

النشيد (قصة قصيرة)

أعياد عامر تكتب: النشيد (قصة قصيرة)


الحادية عشرة ظهرا، وقت تسلح النهار بالعذابات كلها، كعادة كل صيف يأتي عدن منذ حرب 2015.

بخطى منتظمة أسير في أحد شوارع (الشيخ عثمان) المزدحمة قاصدا متجرا آخر الشارع وبإصرار عجيب أبت أمي إلا أن احضر مستلزمات العيد منه دون سواه، ذلك لما تحمله أمي من معتقد ثابت وإيمان مطلق بجودة بضائعه؛ أذعنت لطلب أمي متذكرا قول أبي رحمه الله وتبسمت: "إياك ومناقشة النساء عند اقتراب العيد فهن مستعدات لشن الحرب عليك على أن لا تفسد ليلة العيد التي خططن لها".

كنت قد اقتربت من وجهتي، كان شارعا ضيقا يمتد على إسفلت مشقق كالشفاه الظمآنة، تنتشر على أرصفته المتهالكة بسطات مكدسة بالبضائع الصينية سيئة الصيت، يضج الشارع بأصوات الباعة المرددين لجمل ترويجية مركزة ومكررة بطريقة مستفزة للغاية.. تلك الجمل التي صرنا نحفظها عن ظهر قلب حتى أنني أرددها فجأة عند الامتعاض من شيء معين.

كان للباعة ملامح وأجساد مغبرة، وأعين لا حياة فيها، أما جباههم فكانت تردد نشيداً آخر لا يشبه نشيد البسطات! شدني الفضول لتلك الجباه، فاقتربت وابتعت من أحد الباعة بعض المكسرات لكن من دون أن أفهم الفهم الكامل لمعنى النشيد.

استأنفت السير تاركا خلفي تلك الجباه، وبينما كانت عيني تسبقني سُرقتْ نعم سُرقتْ من امرأة ترتدي(الشيدر) -ذلك الزي العدني الأنثوي الساحر الذي يفوح بأصالة عدن وعبق تاريخها، والذي اشتقت لرؤيته جدا- كانت تبدو في الخمسين من عمرها، وكم وددت حينها أن أبدي إعجابي بتمسكها بالشيدر وجمالها فيه، لكن مثلما تقول أمي النفوس تغيرت وما عادت عدن عدن.

أكملت طريقي حينها أقلب الذكريات مع رائحة (الزعقة)* المحمصة المنبعثة من (المقلاية)*. وبينما كنت أسبح في بحر من الماضي الجميل، تع إلى صوت طفل ببكاء استفز بؤس الباعة وخطف شرود المارة وقت جوع الظهيرة لما تبقى من الأسفلت، ليشد أفئدتهم قبل أبصارهم واحدا تلو الآخر، كالسمك في صنارة صياد حقيقي، كنت أبعد عن المشهد ما يجعل الصوت يلامسني بأطرافه الحادة؛ نعم كان حادا تلك الحدة التي بمقدورها التعمق كنص مكثف للذكريات. اقتربت أكثر فأكثر من الصوت الذي فعل بي يومها ما لم تفعله الأماكن وتناسته الروائح.

كانت طفلة تبدو في ربيعها السادس تقريبا إلا أن كلماتها تجعل من يسمعها يظن أنها أكبر بأعوام! كانت نحيلة وسمراء يجتمع في وجهها حنق فقراء العيد كلهم، يتوزع على جبينها وعنقها آثار طفح جلدي نتيجة للانقطاعات المتواصلة للتيار الكهربائي في صيف عدن الجهنمي. خطر في بالي حينها قول خالتي "الحرارة* علامة الجودة لأطفال عدن".

كانت الصغيرة ترتدي فستانا نظيفا قد بهت لونه الأزرق ،ولها شعر بني قد ظفر بشدة، جعلني للحظة أشعر بأن لها أما حادة الطباع أو أن أمرا سيئا قد جعلها تفرغ غضبها على الخصلات البريئة.

كانت بصحبة رجل أربعيني الهيئة، وأظن بأنه والدها ،كان أسمر يحمل ملامحاً لسعتها نار الشقاء، كان يقف أمامها ببضع خطوات إلا أنه كان يعطيها ظهره، وأظن أنه لم يفعل هذا لغرض التجاهل أو القسوة وإنما لضعف موقفه أمام انهيار الصغيرة.

وفي لحظة من التوتر والغضب انتفخ فم الطفلة وكأنها خبأت فيه كل ما تعرفه من مفردات لهذا اليوم فقط، انفجر فم الصغيرة بعبارة اخترقت ظهر الرجل وأظنها فعلت به مالم تفعل به سنوات الشقاء: (يا رب أموت اليوم يا رب شلني لعندك)*.

هزت كلماتها درب كل من أصابه وقع صوتها.. شعرت للحظة بأني تسمرت بمكاني.. تساءلت أي ألم تجرعته تلك الصغيرة لتتمنى الموت وما الذي تعرفه عنه ليكون أجمل من الواقع الذي تعيشه!

أفَلت ملامحها السمراء خلف ما عصف بها، اقتربت منها لا أدري كيف أو بماذا سأقشر معنى الموت من على شفتيها الذابلتين، كنت أريد فعل شيء فحسب.. وضعت يدي مربّتا على ظهرها وقلت بكثير من القلق: لا تقولي هذا يا صغيرتي توقفي أرجوك.
شعرت بأنفاسها الحارة تتباطأ بشكل مريب، تيبست عيناها فجأة وكأن كل ما فيهما توقف لينصت. أربكني فرط انتباهها نوعا ما لكنني في الوقت ذاته كنت أعلم أنها فرصتي الثمينة لفعل شيء حيال حزنها العميق، أكملت حديثي: صغيرتي الجميلة أطال الله في عمرك وأراك أياما تشبهك.

عدلت من وضعيتي وقابلتها في جلستي، أردت النظر في عينيها عل كلماتي تصلها بشكل أفضل، لكن بصرها كان لايزال عالقا في ذاك الشيء الذي جعلها تتمنى الموت، شددت نبرة صوتي وقلت: من هم في مثل عمرك سعداء جدا اليوم فالغد هو أول أيام العيد يجب عليك أن تبتهجي لأجل هذا..

التفت كل ما فيها إلي وبالأخص ذلك الشيء الذي يسكن عينيها، كان يود قول شيء ما، كان حزنا على هيئة سؤال وحقد ولد من رحم الإجابة، كان تيهاً لا قرار له يغرق وطنا يعارك الموت وحيدا، كان حمما أو ثورة أو قيامة.

حوصرت أمام عينيها كما لم يحاصر إنسان من قبل، وأظنني الآن فقط فهمت نشيد الجباه، وأظنني الآن فقط فهمت كيف ينضج العيد أطفالنا قبل الآوان!

________

- (الشيخ عثمان) إحدى مديريات محافظة عدن.
- (الشيدر) زي تقليدي تلبسه النساء في عدن وهو عبارة عن قطعة قماش سوداء ملساء تشبه الحرير تلبسه المرأة فوق لبس آخر يسمى ‘‘الدرع’’ وتغطي به الرأس ما دون الوجه أحياناً.
-(الزعقة) لب أو حب نوع من أنواع المكسرات.
- (المقلاية) محل يتم فيه تحميص الزعقة واللوز.
- (الحرارة) طفح جلدي يصيب الجسم في فصل الصيف نتيجة لارتفاع الحرارة والرطوبة.
- (يا رب أموت اليوم يا رب شلني لعندك) تطلب من الله أن يأخذها إليه.

- صورة قديمة لأحد شوارع الشيخ عثمان

عناوين ذات صلة:

المطار – قصة قصيرة

زر الذهاب إلى الأعلى