[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة

حارث الشوكاني يكتب: كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة


إن الوحدة سنة كونية تنتظم بموجبها حركة الكون فلو تأملنا في سر هذه الدقة والتوازن في حركة المجرات والشموس والكواكب لوجدنا أن الوحدة هي السر الكامن وراء هذه الحركة المنتظمة وعدم طغيان مجرة أو شمس على أخرى. {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } الرحمن7.

فكل مظاهر الكون ابتداءً من المجرة وانتهاءً بالذرة تدور حول مركز ثابت بشكل منتظم فلو تأملنا مجموعتنا الشمسية لوجدنا جميع الكواكب تدور حول الشمس وهذا سر التوازن والدقة في مجموعتنا الشمسية،، ولو أن هناك شمسين لامركزيتين تتجاذبان الكواكب لاختل نظام مجرتنا بأسره فالشمس هنا تمثل النظام المركزي الناظم للكواكب يقابلها في نظامنا الأرضي البشري (مبدأ وحدة الدولة) إذ هي تؤدي دور الناظم لوحدة الأمة، ودوران الكواكب حول الشمس يجسد مبدأ وحدة الأمة، وهذا النظام المحكم الكوني نجده في حركة المجرات وفي حركة الذرات -أصغر جزء للمادة- فالذرة كما هو معلوم مكونة من نواة مركزية تدور حولها إلكترونات بنفس نظام المجرة ولكن بصورة مصغرة ونواة الذرة تمثل القطب الناظم لحركة الإلكترونات.

وبهذا يتضح لنا أن مقصد التوحيد والوحدة إطار ناظم للحياة الكونية كما هو إطار ناظم للحياة الإنسانية {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }آل عمران83.

فكان في إسلام النظام الكوني لله سر سلامته بعدم فساده أي تضاد حركته واصطدام مجراته وشموسه وكواكبه.

وكان في توحيده سر توحده أي ائتلاف أجزائه وانتظام حركتها في مسارات ثابتة فنظام التوحيد والوحدة بهذه الكيفية هو سر صلاح النظام الكوني وصلاح نظامنا الأرضي البشري.

{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يس 40، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }الأنبياء 92.

كما أن هذا المشهد الكوني الرائع المهيب دوران الكواكب حول الشمس يقابله في الحياة البشرية موسم الحج الفريضة الخامسة في الإسلام، حيث يدور المسلمون حول الكعبة في نفس اتجاه دوران الكواكب حول الشمس، وفي موسم الحج يتجلى مبدأ التوحيد والوحدة بمهابته وروعته ويحصل التوافق بين دين الله الناظم للحياة الكونية، ودين الله الناظم للحياة الإنسانية، وتتجسد وحدة البشرية فطرة (أخوة الطين) وتتجسد وحدة البشرية ديناً (أخوة الدين).

كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة:

كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة (ملة – وأمة – ودولة – وصفاً وهدفاً – وطاقات بشرية وإمكانات مادية)، والدليل القرآني على أن كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}الأنبياء92، وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}المؤمنون52، فهاتان الآيتان العظيمتان نستخلص منهما عدة دلالات على النحو التالي:

1- الدليل على أن كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة قوله تع إلى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) فهذه وحدة الكلمة، وقوله تع إلى (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) فهذه كلمة التوحيد.

2- ونلاحظ في الآيتين اقتران الوحدة بالتوحيد بما يؤكد أهمية مقام الوحدة في المنظور القرآني وأنها مقصد من أعظم مقاصد الدين بل نلاحظ تقديم وحدة الأمة على كلمة التوحيد (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) وقد يبدوا هذا التقديم للوحدة في الآية على التوحيد غريباً ولكن إذا أدركنا رحمة الله بخلقه فلن نستغرب لأن العبودية لله بخلاف العبودية لغيره تجر نفعاً للمخلوق لا نفعاً للخالق بدليل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57}) الذاريات.

فصريح هذه الآية نفى إنتفاع الخالق بعبودية الجن والإنس له (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) بما يؤكد إنتفاع المخلوقين بعبودية الله، ويتعزز هذا الفهم بقوله تعالى: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ{7}) الفاتحة.

فهذه الآية بينت لنا أن هدى السماء يهدينا إلى أقصر الطرق المؤدية إلى النعمة الشاملة في الدنيا والآخرة وليس المقصود بالصراط المستقيم والنعمة هنا صراط ونعمة في الآخرة فحسب كما هو الفهم التقليدي والدليل على ذلك بمنهجية تفسير القرآن بالقرآن قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) {124}) طه.

إذن فصراط النعمة المقصود به الخير والنعمة في الدنيا والآخرة ولما كانت وحدة الأمة هي الأساس والبنية التحتية لإقامة المجتمعات والدول والحضارات وصفها الله بالنعمة في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}آل عمران103.

فقوله تع إلى (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) دلالة قطعية على أن صراط النعمة هو صراط في الدنيا والآخرة وأن أعظم النعم (وحدة الأمة) وأعظم النقم (فرقتها) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ)، فالوحي الإلهي قرين الوحدة والنعمة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) والوحي الشيطاني قرين الفرقة والنقمة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} الأنعام112

رسل الله عبر التاريخ دعاة توحيد ووحدة

إن المتدبر في القرآن الكريم سيدرك أن رسل الله عبر التاريخ أنجزوا المرحلة الثانية من مراحل التغيير (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وهي مرحلة البناء والتنمية وإقامة مشاريع نهضوية حضارية ولذلك نجدهم دعاة توحيد ووحدة باعتبار الوحدة هي عنوان مرحلة النهوض الحضاري الشامل والوحدة بالمفهوم الحضاري النهضوي تبدأ بالوحدة السياسية (وحدة الدولة) ثم بالوحدة الاجتماعية (وحدة الأمة).

ولا تتوقف عند هذا الحد بل تصل عبر الخطط والبرامج إلى مرحلة يمكن تسميتها الوحدة الحضارية النهضوية (وحدة الطاقات البشرية ووحدة الإمكانات المادية) التي تتضافر جميعاً ولا تتصادم لتحقيق أهداف مشتركة (المصلحة العامة) والمصالح الشخصية تتحقق ضمن الصالح العام ولا تسبقه [العقل الجمعي للأمة (العلم) والإرادة الجمعية للأمة (الإيمان) والإنجازات التنموية النهضوية الحضارية (العمل الصالح) (مبررات العقل ودوافع القلب وحركة اليد)].

وأهم شروط وحدة التنمية والنهضة والحضارة هو عنصر التنمية البشرية (عالم الأشخاص) فإذا أنجزنا إعداد الكوادر القيادية لإدارة شئون الدولة نكون قد أصلحنا (عالم الأفكار) لأن ثروة المجتمع تقدر بما يملكه في عقول أبنائه من أفكار لابما في جيوبهم من أموال وبإصلاح عالم الأشخاص وعالم الأفكار يتم إصلاح عالم الأشياء فيحصل البناء والإعمار للأرض ويعم الخير والرفاه والنعمة أفراد المجتمع لأن بناء الحضارات لا يكون باستيراد منتجات حضارة أخرى وإنما بعقول وجهود أبناء المجتمع والحضارة نفسها.

فإذا أدركنا هذه الأبعاد للوحدة سندرك عندئذٍ معنى قوله تع إلى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52} فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{53} المؤمنون:51-53.

إذن كل رسل السماء كانوا دعاة توحيد ووحدة بل أقاموا مشاريع وحدوية في الواقع وكان هذا أبرز ما فعلوه {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52}.

وعبر المشاريع الوحدوية التي أقامها رسل الله عبر التاريخ أقاموا مشاريع نهضوية حضارية وتنموية {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) {51}.

وبهذا نفهم قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ{15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ{16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ{17} سبأ: 11-17.

إن كل المشاريع النهضوية الحضارية عبر التاريخ ارتبطت برسل الله وبديانات السماء وإن دورات السقوط الحضاري تحصل بسبب الانحراف عن حقيقة هذه الأديان.

وبهذا يتضح لنا مدى العلاقة بين المشاريع النهضوية الحضارية {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51}.وبين المشاريع الوحدوية {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) {52}.

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى