[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراءعربي ودولي

قراءة في مسارات العلاقات السعودية الإيرانية

عبدالوهاب بحيبح يكتب: قراءة في مسارات العلاقات السعودية الإيرانية في ضوء الإعلان عن اتفاق برعاية الصين


شهدت العلاقات السعودية - الإيرانية تقلبات عديدة منذ العام 1929 إلى اليوم، كان أهم ملامحها التنافس على النفوذ والسيادة الإقليمية.

تطورت هذه العلاقات ونمت بشكل ملحوظ وحصل تبادل دبلوماسي وتجاري حذر على عهد الشاه، لكن إيران الشاه وإن لم تكن تحمل في سياستها بعدا طائفيا لكنها كانت مدفوعة بأهداف قومية توسعية.

لقد كانت نقاط الخلاف حينها تتمحور حول عدّة قضايا أهمها سعي إيران لتكون القوة الأكبر المسيطرة في الإقليم، وذلك من خلال تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت أهم حليف لها في المنطقة بعد إسرائيل آنذاك، كما مثّل اعتراف نظام الشاه حينها بإسرائيل وإقامة علاقات معها نقطة خلاف بين البلدين. وشهدت تلك المرحلة خلافات في عدّة ملفات أهمها علاقة إيران بإسرائيل وسعيها لتكون شرطي المنطقة، كما مثل إعدام الحاج ابو طالب يزدري 1944 الذي دنّس الشعائر المقدسة في مكة المكرمة بالقاذورات، وكذلك تأكيد الشاه المستمر على تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي نقطة توتر في العلاقات بين الرياض وطهران.

كما مثّلت محاولات إيران الشاه لضم البحرين وتخصيصها لمقعدين باسم البحرين في البرلمان الإيراني، ومطالبتها بالسيادة عليه، بل إن الشاة صرح حينها بأنه سيستخدم القوة لضم البحرين وهو ما اعتبرته الرياض حينها عدوانا وخطرا يهدد أمنها القومي، وقد عبر عن ذلك موقف الملك فيصل الذي اعتبر أن أي محاولات إيرانية لضم البحرين تعد اعتداء على الرياض وأن المملكة لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء اي تدخل وستواجهه بالقوة. ظل الموقف متشنج حتى تم إجراء الاستفتاء على استقلال البحرين برعاية الأمم المتحدة عام 1970 لتعترف إيران بعدها رسميا بالبحرين نتيجة لهذا الاستفتاء الذي أكد فيه الشعب البحريني على هويته العربية.

لم يقف نظام الشاه عند هذا الحد بل حرّك الشاه قواته بالتزامن مع انسحاب بريطانيا من الخليج ليسيطر على الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى عام 1971، وبذلك ضمنت إيران سيطرتها على الجزر الحاكمة على الممرات الملاحية في مضيق هرمز، وظلّ هذا الملف نقطة خلاف ساخنة بين الرياض وطهران حتى اليوم.

لقد ظلّت العلاقات بين البلدين في ذلك العهد تدور في نقاط التنافس الطبيعي بين الدول، منطلقة من السياسة الواقعية لتحقيق النفوذ والمصالح، مع وجود علاقات سياسية تعاونية في الكثير من مراحلها، لكن بعد الثورة الإيرانية ووصول نظام الخميني عام 1979 تغيّرت ملامح السياسة الإيرانية بشكل جذري، وحملت افكار ومفاهيم جديدة في رسم الأهداف الاستراتيجية في سياستها الخارجية.

وأصبحت افكار الخميني القائمة على ولاية الفقيه وقدسيّة الولي الفقيه الحاكم باسم الله ورسوله ووجوب خلافته على المسلمين كحق ديني مقدس وعالمية مشروعه ووجوب تصديره إلى دول الجوار والعالم موادا اساسية في الدستور الإيراني وعقيدة جيشه، وأنشأت إيران الخميني قوات الحرس الثوري الإيراني لهذا الغرض، وبذلك اصبحت افكار وتصورات ومعتقدات الخميني منهج لرسم سياسة إيران الخارجية، وسخّرت إمكانيات الدولة الإيرانية الاقتصادية والعسكرية والثقافية والقومية والسياسية لتحقيق هذه التصورات.

لقد حمل الخطاب الثوري وموقف الخميني من الحكم الملكي الذي اعتبره حكما باطلا غير شرعي لابد من إسقاطه مستشهدا بثورة الحسين على يزيد، أهم معالم سياسته تجاه جيرانه من الدول التي تحكمها الأسر المالكة بما فيها السعودية، كما أن الخميني كان يرى ان الأنظمة الخليجية والعربية بشكل عام أنظمة تابعة وعميلة تدور في فلك السياسات الأمريكية ويجب اسقاطها، وهو في الأساس صناعة استخباراتية غربية عملت على تمكينه كل من فرنسا وبريطانيا وامريكا والمانيا حيث وصلوا إلى قناعة بأن الشاة لم يعد له قبولا شعبيا وأن الثورة ستنتصر لذلك اتخذت هذه الدول قرار تمكين الخميني للحكم في إيران نظرا لمعاداته عقائديا للنظام الشيوعي، وقد اوردت مجلة جو الفرنسية تقريرا مفصلا حول ذلك.

لقد كان النظام الإيراني الجديد واضح الأهداف وسعى من اليوم الأول إلى تصدير ثورته إلى دول الجوار، ليصطدم بالعراق عام1980 في حرب دامية استمرت ثمانية أعوام، كانت السعودية وباقي الدول العربية بإستثناء عمان وسوريا والجزائر وليبيا داعما للعراق في حربه ضد إيران، وأتى الدعم السعودي نتيجة لتخوفها من سياسات إيران القائمة على تصدير الثورة، وسعت من خلال هذا الدعم إلى توقيف واحتواء المساعي الإيرانية القائمة على مبدأ تصدير ثورتها ضمن حدودها الطبيعية..

وهو ما حدث فعلا حيث جمّدت إيران العمل بالظاهر على تنفيذ هذا المبدأ، لتبدأ مرحلة جديدة قادها الرئيس هاشمي رفسنجاني 1989-1997 والذي عمل على إعادة العلاقات مع السعودية ودول الإقليم، كما نهج خلفه محمد خاتمي 1997-2005 نفس النهج الهادئ المرن بل وصل إلى توقيع اتفاقيات تعاونية في مجالات عدة مع السعودية أمنية واقتصادية وثقافية، وتبنّى خطاب إيران الدولة بدل الثورة، كما تبنّت سياسته نظرية حوار الحضارات.

بالرغم من هذه السياسة المرنة التي برزت خلال حكم الرجلين إلا أن إيران الثورة كانت تعمل من تحت الطاولة على تصدير أهداف ثورتها، وعملت على غرس عدة تنظيمات في دول الجوار، ومنها حزب الله في الحجاز، وحزب الله في الكويت، وحزب الله في البحرين، ودعم حزب الله في لبنان، وحتى دعم تنظيم انصار الله في اليمن الذي نفذ تفجير دار سينما بلقيس في صنعاء عام 1982، ودعمها المبكّر للميليشيا الحوثية منذ مطلع الثمانينيات، كما شهدت فترة الثمانينيات والتسعينيات تفجيرات طالت الكويت والسعودية والبحرين واستهداف الحج في اعوام عدة سقط خلالها عدد كبير من القتلى والجرحى.

كما شهدت عدد من العمليات البارزة كتفجير الخبر في السعودية، وسفارات اجنبية في الكويت، واختطاف طائرة الجابرية الكويتية من قبل حزب الله اللبناني والذي كان يقف خلفها القيادي في الحزب عماد مغنية وغيرها من العمليات التي نفذتها في لبنان والعراق والبحرين.. إلخ. استمرت إيران في تصدير ثورتها بشكل خفي مع نهج سياسي براجماتي خلال الحقبة الرفسنجانية والخاتمية، تعمل من خلالها على مسارين، الأول سياسة خارجية مرنة وهادئة وبناء علاقات مع دول الجوار والتركيز على تضميد جراحها الغائرة بعد الحرب مع العراق وإعادة بناء ما دمرته الحرب وبناء قدراتها العسكرية والاقتصادية، والثاني عمل استخباراتي خفي تعمل من خلاله بشكل حثيث وعميق على تصدير أهداف ثورتها من خلال غرس مشروعها الطائفي ودعمها وتدريبها للتنظيمات الإرهابية وزرع الخلايا في دول الجوار العربي مستخدمة المذهب الشيعي وسيلة للإختراق لتحقيق أهدافها التوسعية.

وقد مثل غزو العراق واسقاط نظامه بفعل الغزو الأمريكي عام 2003 وتسليم العراق على طبق من ذهب لإيران فرصة ذهبية لإعادة العمل بشكل أوسع على تصدير الثورة، وأصبح العراق بوابة للنفوذ الإيرانية في المنطقة، لتحمل سياسة اكثر طائفية قادها أحمدي نجاد منذ عام 2005 إلى 2013، كما برز خلال هذه المرحلة العمل على سعي إيران لحيازة قدرات نووية، بالتزامن مع مد نفوذها بشكل نشط في الإقليم. كما مثّلت ثورات ما عرف بالربيع العربي نهاية العام 2010 فرصة ثمينة مكّنت إيران من خلالها على التغلغل في المنطقة بشكل أوسع واخطر، ومن خلال كل تلك الاحداث تعاظم الصراع بين الرياض وطهران، مع تغلغل النفوذ الايراني بشكل نشط في محيط المملكة الاستراتيجي.

حيث نسجت إيران تدخّلاتها ومدّت نفوذها الطائفية بشكل أعمق، وأصبحت تحاصر المملكة العربية السعودية من عدة جهات، حيث أضحت إيران من خلال ميليشياتها تتواجد على حدود المملكة مع العراق واليمن، بل واستهدفتها بالصواريخ والمسيرات الإيرانية عبر الميليشيا الحوثية، كما أحكمت سيطرتها على المشرق العربي وأمّنت وصولا برّيا ينطلق من إيران عبر العراق مرورا بسوريا وصولا إلى لبنان وأصبحت متواجدة على ضفاف المتوسط. كما عملت على تهديد أمن البحرين ودعم الخلايا الطائفية وسعيها لإسقاط نظامه الحاكم، بل ان كبار قادتها لا يعترفون باعتراف إيران بالبحرين بل يعتبرونها المحافظة الإيرانية ال 14، وهو ما تقف بقوة في وجهه السعودية من خلال دعم النظام البحريني بكل الوسائل.

كما عملت إيران على بناء قوة صاروخية وميليشيا طائفية تستهدف أمن الخليج من اليمن والعراق، كذلك يعمل حزب الله اللبناني كأداة إيرانية فاعلة في تحقيق أهدافها الإقليمية من خلال استخدامه في انشطة تعمل على الاضرار بأمن دول الإقليم خصوصا الخليج.

كما وصلت عبر أذرعها في اليمن إلى تهديد باب المندب والممرات المائية في البحر الأحمر بالإضافة إلى سيطرتها على مضيق هرمز والتهديد المستمر بإغلاقه، ولم تقف إيران عند هذا الحد بل تعمل بشكل مستمر على تهريب ومحاولة اغراق السعودية بالمخدرات وتأليب الشيعة في شرق المملكة.

لقد مدّت إيران نفوذها الاستراتيجي على حساب أمن ومصالح جيرانها، كما تسببت هذه النفوذ في تدمير دول وتهجير شعوب، وبسببها تفاقمت المشاكل وازادت حدة الاستقطاب في الإقليم، واصبحت الدول التي تخضع للنفوذ الإيرانية تواجه الفقر والجوع والنزوح والقتل والتهجير كما يحصل حاليا في اليمن وسوريا ولبنان والعراق.

مما لا شك فيه أن عودة العلاقات السعودية - الإيرانية اليوم عامل إيجابي نتطلع من خلاله إلى تخلي إيران عن سياستها العدائية تجاه جيرانها، خصوصا وأن عودة العلاقات اتت بالحاح إيراني في محاولة للهروب من مشاكلها إلى الأمام. كما أن العلاقات والحوار المباشر بين طهران والرياض خطوة مهمة لقطع الطريق أمام الابتزازات الغربية للملكة العربية السعودية.

لكن تحقيق ذلك يعتمد على مدى تخلي إيران عن مبدأ تصدير الثورة، وتحوّلها من نظام الثورة إلى نظام الدولة!!، وانتهاجها مسارا عقلانيا في سياستها الخارجية قائمة على التعاون والمصالح المشتركة، ومن خلال قراءة عميقة لمسار هذا النظام الثيوقراطي الإيراني منذ العام 1979 إلى اليوم نصل إلى نتيجة بأنه من غير الواضح تخلي هذا النظام عن سياساته التوسعية المدعومة بأهداف قومية والمحمولة على خطاب ديني عقائدي طائفي مذهبي، فهذا النظام الأيديولوجي يستمد شرعيته وبقاءه من خلال أهداف ثورته الطائفية، وبذلك هو اكثر تمسكا بهذه الأهداف ولا يمكنه التخلي عنها ففي تخليه عنها تكمن نهايته.

لذلك لن تتخلى إيران عن مشروعها ودعمها للميليشيا الطائفية المنتشرة في المنطقة، ولا عن سعيها المستمر لاستداف أمن المملكة ومحاولة اختراقها وتهديد وجودها. كما قد تستخدم إيران البراجماتية في نسج علاقاتها مع منافسيها، خصوصا عندما تشعر بتزايد الضغوطات والتهديدات الدولية، حيث تعاني حاليا من تبعات المظاهرات التي تشهدها منذ أشهر، بالتزامن مع تحركات غربية تستهدفها نتيجة لدخولها الحرب إلى جانب روسيا ضد أوكرانيا من خلال مد روسيا بمنظومات الطائرات المسيرة الإيرانية قليلة التكلفة بالغة التأثير، كذلك نتيجة لنشاطاتها المتقدمة في تخصيب اليورانيوم ووصولها إلى مستويات عالية أصبحت من خلالها على بعد خطوة من الوصول إلى عتبة القنبلة النووية، في ظل تكهنات واحتمالات بتوجيه ضربات إسرائيلية امريكية لمنشآتها النووية لثنيها عن إنتاج السلاح النووي، لذلك قد تهدّئ إيران من تنافسها مع السعودية، وتعيد بناء علاقاتها معها، مع إبقاء حضورها ونفوذها على ما هو عليه، وعدم تخليها عن دعم أنشطتها التخريبة في الإقليم، كما ستستمر من تحت الستار في العمل على تحقيق أهدافها الاستراتيجية المتمثلة في بسط سيطرتها وفرض هيمنتها على الإقليم مدفوعة بأطماع اقتصادية وأهداف إمبراطورية فارسية وما الدين والمذهب إلا ستارا للوصول إلى هذه الأهداف.

اقرأ أيضاً على نشوان نيوز: نص الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين: هذا ما جاء في البيان

زر الذهاب إلى الأعلى