[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

حكاية العرب مع التنوير

للتنوير في الأوساط الشعبية اليمنية مفهوم يختلف كثيراً عن مفهومه السائد في أوساط المثقفين، ويرتبط المفهوم الشعبي بطلاء المنازل باللون الأبيض من خارجها بمادة تسمى «النورة» ، وهي من الجص المحروق، وعملية «التنوير» هذه تتكرر عند الموسرين كل عام، لكي تظل منازلهم برَّاقة تشد إليها الأنظار، وعلى العكس من ذلك منازل الفقراء التي تظل باهتة بعد أن يتساقط عنها بريق «النورة» أو الجص. ورغم أن الأسلوب مختلف بين التنويرين (تنوير المنازل) وبين تنوير العقول؛ فالتنوير الأخير وهو الفكري الذي كان قد بدأ قوياً واثقاً مع طلائع التنوير في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وجمع في صفوفه علماء وأدباء ورجال دين ودعاة إصلاح، لكنه تعرّض بعد حين للتراجع وأصبح باهتاً، بل كاد يسقط من الأذهان، ولم تتابع جهود التنويريين أمثال: رفاعة الطهطاوي، والإمام محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، والكواكبي، والبستاني، وطه حسين، وعلي عبد الرزاق، والعقاد وغيرهم. وبدت محاولات التنوير في الوقت الراهن وكأنها تبدأ من الصفر، ربما لأن التنوير السابق المتقطع ظل على السطح ولم ينفذ إلى الأعماق، بل لم يجر تواصله، في عملية تراكمية إبداعية، لأسباب خارج شرط هذه القراءة، أو فائضة عن حاجتها.

 

كثيرة جداً هي الأسباب التي أدت إلى تعثّر حركة التنوير في حياتنا العربية المعاصرة، والبعض يرجع التعثّر إلى أن التنوير بدأ تقليداً ومحاكاة للغرب، وذلك غير صحيح فقد كانت بداياته تعتمد على قراءة واعية ومستبصرة للتراث (تصحيحاً، ونقداً) وانطلقت عند كثير من رجال الدين، من فهم عميق ووعي للعقيدة الإسلامية ومن الإدراك السليم لما كان قد حققه الإسلام في حياة المسلمين -شرقاً وغرباً- من تطور فكري واجتماعي وثقافي وعلمي، ومن قراءة واعية أيضاً لقرون الانحطاط وما رافقها من خروج العرب من قيادة المسار الحضاري، وما لحق باللغة العربية من تدهور وتوقف عن الإبداع. ويمكن مقارنة محاولة التنوير الفكري والسياسي بمحاولة التنوير الثقافي وما أدّاه الإحيائيون في عالم الأدب من تحقيق انتقالة بالغة الأهمية أقامت جسور التواصل مع الموروث الأدبي والشعري خاصة.

 

ومن هنا فلم تكن الدعوة إلى الاستنارة نابعة من تقليد الآخر، وإن كان النظر إلى ما وصل إليه الآخر محفِّزاً ودافعاً إلى تجاوز المعوقات والخروج من زنازين التخلف والانغلاق.ويمكن القول بثقة تامة أن تنوير الاجتهاديين المستمد من التراث، بمختلف مستوياته، وما تميز به بعض التنويريين الأزهريين كالشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، كان قد حقق بعض الخطوات المهمة على الطريق الطويل الذي لم يتواصل، وأدركته في وقت قصير حالة انقطاع، وكاد اجتهاد هذا المفكر الإسلامي التنويري يتلاشى، فقد أفتى بأن التصوير نوع من التوثيق الفردي الاجتماعي، وجاء ذلك في مواجهة المتشددين الذين كانوا يرون أن التصوير حرام شرعاً. كما أفتى بأن التعامل مع البنوك أصبح ضرورة تقتضيها المصلحة العامة، ولم يعد شكلاً من أشكال الربا، لكن هذه الفتوى من تنويري إسلامي عقلاني، مجتهد لا تزال في مهب الريح ولم يتقبلها كثير من فقهاء الدين، ولا يزالون يرون في التعامل مع البنوك صورة من الربا المحرم شرعاً.

 

وهكذا في كثير من الاجتهادات التنويرية التي لم تخرج عن أية قاعدة إسلامية، والتي تراعي تغير الظروف وتحقيق المصالح العامة التي تتفق مع المقاصد العليا للشريعة، التي يزكيها القول المأثور حيث تكون مصلحة المسلمين، يكون شرع الله.

 

وتحضرني هنا - والحديث عن فشل التنوير- عبارة في غاية الأهمية رغم مراراتها وهي للمفكر العربي الراحل الدكتور محمد عابد الجابري قالها قبل سنوات قليلة من وفاته وهي: «ما زلنا نعيش بقايا عصر الانحطاط الفكري»، ومعنى ذلك أن كل الجهود التي بذلها المفكرون العرب المعاصرون على اختلاف انتماءاتهم لم تتمكن من إزالة ما سماه المفكر الراحل ب«البقايا» وهي في حقيقة الأمر مجموعة من التراكمات المتخلفة عن أزمنة التخلف تحول بين العرب والتطور المنشود، وتمنعهم من تأسيس مشروعهم الحضاري الهادف إلى مواكبة العصر سياسياً واقتصادياً وثقافياً وصناعياً، وعلمياً، وبما لا يتعارض مع القيم ولا يتصادم مع أي حقيقة من حقائق الدين الذي إنما جاء به المشرع الحكيم والعليم لإسعاد البشر وإخراجهم من ظلمات الجهالة إلى فضاء فسيح من الأنوار والأضواء.

زر الذهاب إلى الأعلى