[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

لماذا نخاف الحديث عن المستقبل؟

كثيرة هي الدراسات والأبحاث المستقبلية المتوفرة في مكتباتنا العامة. وفيها ما هو مؤلف باللغة العربية وما هو مترجم إليها، لكن الإقبال على قراءتها محدود إن لم يكن منعدماً كأننا نخاف المستقبل أو الحديث عنه، وعلى العكس من ذلك الدراسات الماضوية التي يزداد الإقبال عليها بصورة منقطعة النظير. وتلك علامة بالغة الدلالة على يأس الإنسان العربي القارئ من الحاضر وعدم وغياب إحساسه بالمستقبل. ولا مكان لمثل هذه الظاهرة، ظاهرة الانصراف عن الحاضر والتنكر للمستقبل إلاَّ في وطننا العربي وفي عالمنا الإسلامي، وهي ظاهرة تعكس مرضاً عانت وتعاني منه النخب السياسية من الانشقاقات وغياب الرؤية وفقدان المشروع الجامع والهادف إلى الارتقاء وتجاوز التخلف. وفي هذا ما يوحي بل ويؤكد أسباب فشل المحاولات الرائدة عربياً وإسلامياً على مدى القرن العشرين والتي توشك أن تنجح في أن تُتبع القرن الواحد والعشرين بسلفه الضائع ما لم ينهض من بين الركام السياسي والاجتماعي جيل جديد مؤهل للمواجهة وقادر على تحدي كل الصعاب التي وقفت في طريق تطور حال الأمة حتى الآن.

 

وحتى لا يتبادر إلى أذهان من يقرأون النصف الأول من الجملة ويتركون نصفها الآخر أسارع إلى القول بأن الاتجاه إلى المستقبل لا يعني القطيعة مع الماضي أو استبعاد التواصل الطبيعي والتاريخي بهما، فالحياة في مسارها الزمني والعملي سلسلة مترابطة من التجارب والخبرات والتجاوز. والرؤية إلى التاريخ في غياب الرؤية إلى المستقبل خاطئة تماماً كحال الرؤية إلى المستقبل بعيداً عن تجارب الماضي وما كان قد تحقق في رحابه من تحولات، وإنسان اليوم لم يكن تكراراً لإنسان الأمس، وإنسان الغد لن يكون بكل تأكيد تكراراً لإنسان اليوم أو الأمس، لكنه سيظل حاملاً شيئاً من السمات الراقية والنبيلة لإنسان كل العصور، هكذا يحدثنا تاريخ التحولات والحقائق الثابتة للتغيير الذي طرأ على شعوب الأرض، وفي هذا العصر على وجه الخصوص حيث تسارعت التطورات وتجاوز الإنسان المعاصر في قرن أو نصف قرن ما كان الإنسان القديم يحتاج في تجاوزه إلى عشرات القرون.

ولو لم يتحكم قانون التطور انطلاقاً من سنن هذا الكون الذي خلقته قوة هي الأعظم والأقدر على تسيير شؤونه لكانت الحياة قد تجمّدت وتحنّط الأحياء، ولما كانت هناك إضافات في العلوم والأفكار ومجالات الإبداع، وساعتئذ ستبدو الحياة إن استمرت في البقاء خاملة مملة غير جديرة بأن تُعاش. ولعل الأنظمة الجامدة التي راهنت على بقاء شعوبها بعيداً عن مهب التحولات والمتغيرات قد جنت على نفسها قبل أن تجني على الشعوب ووضعت قادتها في سجن لا يعرف معه ساكنوه نور الكهرباء ولا يشاهدون الطائرات وهي تعبر الفضاء حاملة الركاب من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق والعكس، ولما كان لهم حظ مشاهدة التلفاز ومتابعة ما يحدث على الأرض في لحظة وقوع الحدث ومتابعته بالصوت والصورة.

ومن هنا الاهتمام بالدراسات المستقبلية يؤهل الإنسان لمعرفة ما سيحدث له وللآخرين قبل أن يحدث وفي ذلك ما يكفي لمعرفة أهمية هذا النوع من العلم الذي نتجاهله ولا يجد من مواطنينا المتعلمين أي اهتمام.

ويحضرني في أثناء كتابة هذه الزاوية كلمة قيل إن أحد الحكام العرب الذين بُلي بأمثالهم القرن العشرون، وهي كلمة «استقرار»، فقد كان يرددها صباح مساء في مواجهة من يدعوه إلى فتح بعض النوافذ ومواربة أبواب البلاد لدخول بعض الضوء وكانت تلك الكلمة هي لسان حاله معلناً أن محبته لشعبه ولأبناء ذلك الشعب تجعله يحرص على أن يعيشوا جميعاً في حالة استقرار نظراً لأن أي تغيير من وجهة نظره سيكون مصحوباً بما يناقض الاستقرار أو يخالف حالة الموات، علماً بأنه لا تناقض بين التجديد والاستقرار. إن أحدث التحولات هي التي ستضمن الاستقرار وفي الوقت ذاته تضمن الحياة كما ينبغي أن تكون لشعب يعيش خلف الأسوار لا يعرف شيئاً عن العالم من حوله، ولا يعرف العالم عنه شيئاً، ولا يكاد يدري أي شيء عن الماضي والمستقبل ولا حتى عن الحاضر الذي يتجرعه بمرارة.

زر الذهاب إلى الأعلى