المذاهب الفقهية واحتقار العمل
د. عبدالله القيسي يكتب: المذاهب الفقهية واحتقار العمل
في يوم عرفة، وقف النبي عليه الصلاة والسلام خطيبا في عدد كبير من المسلمين في خطبة الوداع، وكان يوما مشهودا سطر فيه كثيرا من الحكم والإرشادات لهذه الأمة، وكان مما قاله في ذلك اليوم:
"أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى -ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد. قالوا نعم -قال فليبلغ الشاهد الغائب".
وهكذا عاش المسلمون في مساواة بعيداً عن سوءة العنصرية، ثم بدأت تظهر أولى جذور العنصرية -بعد حوالي مائة عام- عبر سؤال طرحه أحد الفقهاء وهو: هل المولى كفؤ في الزواج من العربية أم لا؟ وهل القرشي كفؤ للهاشمية أم لا؟ وهل العجمي كفؤ للعربية؟ وهكذا توسعت المسألة عند الفقهاء حتى صارت جميع المذاهب تتكلم عن الحرف الدنيئة، وحشر كل مذهب بعض الحرف والأعمال تحت بند الحرف الدنيئة في مخالفة واضحة لأكثر من 300 آية تحث على العمل والبناء.
ولأن هؤلاء لم يجدوا آية تسعفهم في بدعتهم تلك فقد بحثوا في مكان لا يمكن أن يخرجوا منه صفر اليدين وهو عالم الأحاديث، وما أدراكم ما عالم الأحاديث؟! إنه فضاء مفتوح يجد فيه كل امرئ بغيته، فيمكنك أن تجد الحديث وضده بكل سهولة، وما ذلك إلا لكثرة الوضع على لسان نبينا عليه الصلاة والسلام، خاصة وأن رواج الحديث في تلك الفترة كان كبيرا لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها.
وهكذا بدأ الفقهاء يستندون على أحاديث لا تسمن ولا تغني من جوع أمام النص الخالد في القرآن (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، لكنه لم يكن إجماعا بينهم إذ ظهر فقهاء نفوا صحة تلك الأحاديث، فابن حجر مثلا يقول: (ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث)، وقال سفيان الثوري: (لا تعتبر الكفاءة في النسب) ومثله قال ابن حزم، وقال ابن تيمية نافيا اعتبار الكفاءة النسبية: ( وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صحيح صريح في هذه الأمور ).
وبرغم أن هناك من نفى صحة أي حديث في اعتبار الكفاءة في النسب، إلا أن بعض الفقهاء والمذاهب استمرت في تصنيف أعمال الناس والحكم عليها بأنها دنيئة، ومن تصفح كتب الفقه عند المذاهب الأربعة سيجد أن كل الحرف والأعمال التي نمارسها اليوم تعتبر دنيئة، وإن كانت العادات قد تجاوزت بعضها كالطب وأبقت الأخرى.
يقول الدكتور محمد رواس قلعجي في كتابه (الاحتراف وآثاره في الفقه الإسلامي)، تحت عنوان (حصر الحرف الدنيئة): "لقد حرص الفقهاء على تحديد الحرف الدنيئة، ليبقى ما وراءها من الحرف شريفاً، فأول ما بدأوا به بيان تصورهم للحرفة الدنيئة فقالوا: الحرفة الدنيئة هي كل حرفة دلت ملابساتها على انحطاط المروءة وسقوط النفس، ثم راحوا يعتمدون على العرف في تعداد الحرف الدنيئة التي حكمت عليها أعراف عصرهم أنها حرف دنيئة.
فذكر المالكية الحجام والزبال والحائك والفران والحمامي والشاعر الذي يمدح الناس في الأسواق والولائم، ممن يتعاطون حرفا دنيئة.
وذكر الحنابلة الحائك والحجام والفصام -وهو الذي يجرح الجلد ليسيل منه الدم- والحارس والكساح -وهو الذي ينظف الأفنية والكنف- والدباغ والحمامي والزبال والصباغ والصائغ والحداد ومؤجر الفحل للعسب -أي اللقاح- والماشطة -التي تتولى تزيين النساء- والنائحة والبلان -وهو قيِّم الحمام- والمزين والجرائحي -وهو الطبيب الجراح -والبيطار.. ممن يتعاطون حرفا دنيئة.
وذكر الشافعية الكناس والحجام والحارس والراعي وقيِّم الحمام (البلان) والفصاد والحاقن -الذي يداوى الناس بالحقنة الشرجية- والقمام والقصار والزبال والكحال والدباغ والإسكاف والجزار والقصاب والسلاخ والجمال -الذي يسوق الجمال بالمراكب- والدلال -الذي ينادى على السلع- والحمال والحائك والفوال والحداد والصواغ -هو الصائغ- والبيطار.. من الذين يتعاطون حرفا دنيئة.
وذكر الحنفية الحائك والحجام والكناس والدباغ والحلاق والبيطار والحداد والصفار -الذى ينظف الأواني النحاسية ويطليها بالقصدير- والحارس والسائس والراعي وقيِّم الحمام والبواب والسواق -الذى يسوق الدابة بالراكب- والفراش -الذى يتولى تنظيف مفروشات المنزل ونحوه- والوقاد والمرضع التي احترفت الإرضاع بأجر، ممن يتعاطون حرفاً دنيئة".
بهذا كاد أولئك الفقهاء أن يدخلوا معظم الحرف اليدوية في إطار الحرف الدنيئة، وفاتهم أن النبي عليه الصلاة والسلام فضل العمل اليدوي، وأنه قبَّل اليد التي مجلتها المسحاة قائلا: (هذه يد يحبها الله ورسوله) وأنه هو نفسه كان يخصف نعله، ويقمّ بيته، ويجمع الحطب، ويذبح البدنة، وأن مهنته ومهنة موسى كانت الرعي، وأنه أسف لما علم بوفاة عجوز كانت تقمّ المسجد لأن هذا حال دون أن يصلى عليها، وأن مهنة داود كانت الحدادة، ومهنة إدريس كانت الخياطة، ومهنة نوح كانت النجارة، وأن الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، من علي بن أبى طالب حتى أحمد بن حنبل عملوا أعمالاً يدوية، بل اشتغلوا في حمل الأثقال! وأن زينب بنت جحش وأسماء بنت عميس كانتا تقومان بالدبغ، وان عمرو بن العاص كان يملك مجزرة في مكة، وأن الزبير بن العوام كان جزاراً.. الخ.
ولم أذكر هنا ما قالته كتب المذاهب الشيعية في المسألة، لأن مذاهبهم أساسا قامت على فكرة عنصرية، فهم أكثر من رسخ لذلك التقسيم العنصري، وذلك لما يجنون من ورائه من حلب للدنيا باسم الدين.
ومن تلك الفترة انفتح الباب إلى عنصرية مقيتة ودخل المسلمون -بفقهائهم- في بدعة كبيرة ومخالفة صريحة -إلى يومنا- هذا لأهم مقاصد الإسلام من المساواة وعمارة الأرض بالعمل.
ومن الغريب اليوم أن تجد الطوائف والمذاهب والجماعات الإسلامية تنقب في كل كتب الحديث علها تجد سنة غائبة -حتى لو كانت نسبتها ضعيفة للنبي- ليحيوها بزعمهم، وقد نجحوا في نشر خطاب يهتم بقص الشارب، وإطالة الثوب، وسواك الأسنان، وضاع عليهم تذكير الناس بعدم الوقوع في هذه البدعة الكبرى، لست أدري كيف أهملوها؟ هل خافوا من مخالفة العجل الذهبي الذي صنعوه بأيدهم ثم عبدوه.
أيها الناس: إذا رأيتم من يصلي في اليوم ألف ركعة، ويخطب في الناس ألف خطبة وموعظة، ويبكي ألف مرة من تلاوة القرآن، ثم يؤمن بهذه العنصرية تجاه المهن والأعمال والحرف فاغسلوا أيديكم منه، فوالله لو سقطت جبهته على الأرض من كثرة العبادة ولم يصدُق مع الله برفضه لهذه العنصرية فإنه يغالط نفسه.
إن العالم والفقيه والواعظ الذي لا يحارب هذه العنصرية -قولا وعملا- يغالط نفسه ويغالط ربه.
إن العالم كله قد خطا خطوات كبيرة في القضاء على العنصرية واحتقار المهن والحرف، ولم تعد تجد لها وطنا إلا عند المسلمين.
لقد سمعت وقرأت أسماء كثيرة لمؤسسات مدنية تدافع عن حق هنا أو هناك ولكني لم أجد من يتكلم عن هذه العنصرية تجاه المهن والحرف.
إن على المسلمين أن لا يستغربوا من تأخرهم اليوم في التكنولوجيا، فجذور تأخرنا تكمن في ثقافة خاطئة تحتقر العمل!
إننا بحاجة اليوم إلى ثورة فكرية واجتماعية إلى جوار ثوراتنا السياسية حتى نتحرر من ثقافة التخلف التي أثقلتنا قرونا.
- من كتاب عودة القرآن