آراء

أحمد قاسم دماج.. الأمر يعنيه إذن

د. همدان زيد مطيع دماج يكتب: أحمد قاسم دماج.. الأمر يعنيه إذن


من مجمل السمات والصفات الجليلة التي أتذكرها في عمي أحمد رحمه الله كانت هناك سمة خاصة ظلت تنمو وتتضح معالمها أكثر عبر سنوات حياتي وتقاطعاتهات الشخصية والتربوية والفكرية معه، وهذه السمة هي "القدوة"، وما تتطلبه هذه الصفة من التزامات فكرية وأخلاقية وسلوكية خاصة وعامة.
يحتاج أي مجتمع في طريقه النضالي نحو التطور والانعتاق من رواسب الجهل والفقر إلى شخصياتٍ ثائرة ومؤثرة، وكان أحمد قاسم دماج قدوة ملهمة للكثيرين من أبناء جيله، والأجيال اللاحقة، خاصة أولئك المنشغلين بالهم العام من أبناء الحركة الوطنية اليمنية، الذين أخذوا على عاتقهم مسئولية استمرار النضال والتنوير من أجل التغيير نحو الأفضل وتحقيق الطموحات العظيمة، رغم كل ما عصف بمشروع التحديث من انتكاسات وهزائم.
كان قدوةً في الفكر والمسلك، قدوةً في التحدي والتضحية، قدوةً في النزاهة والصدق ونقاء الضمير.
ولا بد للمتأمل الدارس لشخصيته، عبر عقودها السبعة، أن يدرك أن صلابة مواقفه، واتزان شخصيته بخصائصها النبيلة، لم تكن نتاج تكوين ذاتي فرضتها تجارب الحياة، أو سنوات الطفولة القاسية، وحسب، بل كانت نتاج وعيٍ ناضج وإدراك عميق وبصيرة تجارب خلاقة. لهذا كان الهم الشخصي والهم العام يلتقيان عنده حد التماهي، ومن هنا تنبثق معالم سمة أخرى من سمات شخصيته، ألا وهي انتماؤهُ الكامل في حياته اليومية إلى القضايا العامة، وبعدهُ عن الشأن الشخصي أو الخاص.
كنتُ دائماً أدخل عليه غرفة نومه المتواضعة وأشعرُ برهبةٍ لا أشعر بها في أي مكان آخر. فرشٌ على الأرض كان سريره، محاطاً بمئات من كتب الشعر والفلسفة والسياسة والفنون والآداب بمختلف أجناسها، مكومةً ومبعثرةً في كل مكان من الغرفة.
كان هذا هو الثراء الذي لا يعترف بغيره. ممسكاً كتاباً بيد، وبأصابع اليد الأخرى يقبض على سيجارته المفضلة، يلتفتُ نحوي ويسألني كعادته: ماذا تقرأ هذه الأيام؟ فأجيبه قبل أن يأخذنا الحديث، كما هو معتاد، إلى الشأن العام... الشأن العام الذي كان دائماً همه الأول، حتى أنني لا أكاد أتذكر متى تحدثنا معه –نحن ابناؤه وتلامذته- في شؤوننا الخاصة.
كان الشأن العام، والهم الوطني والعربي، هو أهم ما يعنيه في الحياة... ولم يكن الأمر مستغرباً حقاً، فها هو بنفسه يؤكد لنا هذا في مطلع احدى قصائده الجميلة بعنوان "انتماء":
الأمرُ يعنيني
أنا ابن اليقظتين:
دمي و"صنعاء"،
وأنا سليلُ الموج في "عدنِ"
ونجلُ النجمتين
وشغافُ قلبي
بعضُ ما تهبُ الجبالُ لعاشقيها.
الأمر يعنيني إذاً..
نعم، كان الأمرُ يعنيه، ولطالما كان الأمر يعنيه.. أمرُ اليمن بمدنها وقراها وجبالها وسهولها التي يكاد يعرِفُها كُلها (من أقصى قرى حضرموت إلى جبال السراة)..
كان يعنيه أمرُ شعبها التواق إلى الحرية والكرامة والتقدم. أمرُ المواطن العربي وهمومه من المحيط إلى الخليج وأبعد. أمرُ الانسان في صراعه المستمر من أجل الارتقاء والتطور.
وها هو العام الرابع يطل علينا بذكرى رحيله عنا، بذكرى خسارتنا برحيله، بذكرى حجم حزنه على اليمن وأطفالها ونسائها ورجالها، بمدنها وقراها وجبالها ووديانها، لكنها تظل أيضاً ذكرى رحيل "قدوة"، لم تختلّ بوصلته الوطنية شعرةً واحدة رغم كل الأنواء والتحديات الكبيرة التي عاشها في حياته الباذخة، وفي تجربته السياسية والاجتماعية الفريدة.
حياتهُ التي تكادُ، بحد ذاتها، أن تشكلَ ملحمةً شعريةً مبهرة، والتي ظلّ حتى نهايتها متمسكاً بمواقفه الوطنية، وانحيازاته الاجتماعية، والسياسية، والانسانية، ضارباً المثل الأكثر وضوحاً للقدوة التي أرادها، للإنسان الشريف، والسياسي النزيه الصادق، والشاعر العذب الهارب من أضواء الشهرة التي يركض إليها الآخرون، المثقف التنويري المتمتع ببعد النظر ورجاحة الرأي، والمناضل/الضمير... الزاهد في كل شيء إلا في أحلامه وشجاعة موقفه وإنسانيته وآماله الكبار.
كانت لنا موجةٌ في الرياح/ سنبلةٌ في الرحيلِ/ نبضٌ في مداربِ السيول.../ كانت لنا/ وما تزال..

 

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى