التقويم الحميري.. بصمة اليمن الأزلية
زهير الظاهري يكتب حول: التقويم الحميري.. بصمة اليمن الأزلية
عادة تقاس الحضارات بما تركته من آثار مادية أو فكرية، وإن نقشا واحدا يدل على حضارة، والحضارة ليست كلمة اعتباطية يمكن أن نطلقها على أي تجمع سكاني مهما كان، والإ فإن البدو الرحّل أهل حضارة.
إن الحضارة هي الرقي الذي وصل إليه ذلك التجمع السكاني في أي زمن، أي دليل على وجود فكر وذائقة ولمسة إبداع وفن، هذه هي الحضارة، إنسان متحضر يبني ويزين الحياة ويفهم أسرارها، وهي النقيض تماما للبدائية، الإنسان الذي لا يهتم لسوى حاجته فقط.
لإثبات وجود حضارة في أي مكان لا نحتاج إلى قصور وحصون وملوك وكنوز وتماثيل، إن نقشا واحدا يدل على حضارة، نقش واحد في جدار يدل على فكرة، يدل على ذائقة ورقي وتحضر ذلك الإنسان الذي عاش على هذه الجغرافيا في زمن ما، جثة واحدة دليل كافي على ما وصل إليه العلم والطب في أي زمن.
وكانت لحظة اكتشاف الزراعة هي اللحظة التي قسمت التاريخ إلى تاريخين في ذاك الزمن ما قبلها وما بعدها، وحاليا تعتبر مرحلة الرقي الأول في تاريخ البشرية، اللحظة التي أدرك الإنسان فيها سرا من أسرار الكون، وبدأ بتسخيره والاستفادة منه.
والزراعة طقس أزلي وليس طارئا حتى تتجاوزه أي دولة، إنه التوءم الأول للبشري على هذا الكوكب مخلوقه الأول وذاكرته الأزلية والعبادة الأولى التي مارسها الإنسان، بها اتحد الإنسان مع التراب حتى هذه اللحظة.
والتقويم ليس مجرد عداد للأيام، إنه خلاصة فلسفية وفكرية، عصارة الكثير من المعارف التي تقوم عليها الحياة، إنه نظام حياة وبرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي بما يتناسب مع هذه الجغرافيا أو تلك تناسبا دقيقا، ولا يمكن أن نستعير لأي دولة تقويم دولة أخرى، فالتقويم يشبه البصمة الوراثية أو الرمز النووي لها، صورتها الفوتوغرافية وخريطتها الفلسفية والثقافية التي تهضم الكثير من العلوم والمعارف فيها، ولا توجد دولة تحترم نفسها وشعبها وتاريخها إلا وأوجدت لها تقويما خاصاً بها.
ويتم عبره تحديد كل البرامج الإقتصادية والسياسية، الري والزراعة والحصاد وأنواع الزراعات والأماكن التي تزرع فيها كل صنف وأوقاتها، وأيام دفع الضرائب للدولة وحماية الدولة وتسيير الجيوش والأعياد والحفلات.
والتقويم الحميري ليس فكرة عصبية أو طائفية، دعكم من هذا الكلام، إنه برنامج اقتصادي وسياسي متكامل يبدأ هذا التقويم من أول أيام المطر 14 إبريل ، ويعتمد على النجوم والشمس في تقسيم الأشهر والأسابيع والأيام، وتحديد الظروف المناسبة لكل نوع من أنواع الزراعات.
إن التقويم الهجري والميلادي تقويمات دينية واجتماعية ولا علاقة لها بالاقتصاد وليس لها أي فلسفة وفكر، فلماذا لا يعتمد التقويم الحميري كتقويم ثالث لهذه البلاد؟ في الشئون الاقتصادية والزراعية فقط، لا نريد أكثر من ذلك، ليكن التقويم الميلادي هو التقويم الرسمي للدولة وذلك ليربطها بعلاقاتها الدولية فلا تصبح نشازا في هذا العالم،
وليكن التقويم الهجري هو تقويمها الديني، ولكن لماذا كل هذا الإهمال للتقويم الحميري الذي يعتبر البصمة الأزلية لهذه الأرض، فهو ابنها البكر، والذي يحمل ملامحها وصفاتها ومزاجها المتقلب، إنه تراثها الفكري والفلسفي ونتيجة جهد شاق في تتبع النجوم ورصدها وهذا دليل هائل على ما وصل إليه اليمني في ذلك الزمن من رقي وحضارة ووعي واحترام لذاته ككيان مستقل بمزاجه وفلسفته.
عناوين ذات صلة: