آراء

الفن في اليمن.. ربع قرن من الجدب

ثابت الأحمدي يكتب عن الفن في اليمن.. ربع قرن من الجدب


المتتبعُ للمشهد الفني اليمني شمالا وجنوبا منذ ثورتي 26 سبتمبر 62م و14 أكتوبر 63م يستطيع إيجاد فرق واضح بين مرحلتين فنيتين في الشمال والجنوب معا:

المرحلة الأولى منذ مطلع السبعينيات

لقد كانت هذه المرحلة مرحلة الغزارة والإنتاج، مع الإشارة إلى أن الغزارة الفنية التي نتكلم عنها هنا لا يمكن قياسها بأي حال من الأحوال إلى دول متقدمة فنيا في المنطقة مثل مصر أو العراق أو لبنان، إنما قياس داخلي، لا أكثر.

منذ الستينيات وحتى منتصف التسعينيات تقريبا نستطيع القول أن ثمة مشهدًا فنيًا متميزًا ومقبولا إلى حد كبير، على مستوى الإنتاج وعلى مستوى الأداء؛ إذ برز على الأقل منذ مطلع السبعينيات وحتى منتصف التسعينيات فنانون أثروا الساحة الفنية، وصنعوا وجدانا وطنيًا وذائقة فنية راقية، لا على مستوى النخبة فحسب؛ بل على مستوى العامة من الناس، رجالا ونساء، في المدينة والريف على حد سواء. ولعل عقد الثمانينيات من القرن الماضي هو عقد الفن اليمني بامتياز، كما فصلتُ ذلك في مقال سابق.

خلال هذه الفترة ظهرت مدارس فنية، وتشكلت ذائقة فنية شعبية وبرز فنانون كثر، تجاوز بعضهم المحلية إلى القُطرية، وأبدع شعراء في الشعر الغنائي؛ بل وأبدعت أصوات فنية نسائية بصورة غير معهود من سابق، وغير ملحوقة أيضا اليوم، في ظاهرة نادرة لا نكاد نجد لها سببا وجيها.

ما بين 70 إلى 95م، برز كل من: الثلاثي الكوكباني، الحارثي، أيوب طارش، أبوبكر سالم، فيصل علوي، المرشدي، الآنسي، السنيدار، كرامة مرسال، أحمد فتحي، جابر علي أحمد، المعطري، الحبيشي، نبات أحمد، تقية طويلة، أمل كعدل.. إلى آخر القائمة..

في هذه الفترة تمايزت مدارس، تمايزا إيجابيا خلّاقا: الحضرمية، اللحجية، التعزية، الصنعانية، فنون المناطق الوسطى، ولا شك أنّ لهذا المشهد الإبداعي امتدادا تاريخيا سابقا لقرون طويلة، فالفن كامنٌ في الوعي الجمعي للشخصية اليمنية، وإن حاولت الإمامة كبته والقضاء عليه.

اقترن إبداع الفضول بأيوب، المحضار بأبوبكر، ومطهر الإرياني بالآنسي.

في هذه الفترة تشكلت الأغاني الوطنية التي كتبها كل من: الفضول، المحضار، الإرياني، عثمان أبو ماهر، علي بن علي صبرة.

مئات الألحان التي أُبدعت، مئات الأغنيات التي صدحت، بعض من الأوبريتات الغنائية الوطنية، كان آخرها أوبريت عام 2000م بمناسبة الذكرى العاشرة للوحدة اليمنية آنذاك. وحتى بعض الأناشيد الدينية والموشحات التي كشفت عن كنوز لحنية نادرة في الريف اليمني.

المرحلة الثانية منذ مطلع الألفية الجديدة

في الحقيقة، تواصل المشهد الفني لا عن إبداع؛ إنما عن تجديد لما تم إبداعه سابقا، فشهدت الساحة الفنية طفرة شبابية من الفنانين الجدد الذين تبازغوا من بداية التسعينيات فما بعدها، فكانوا مستهلكين أكثر منهم منتجين. جددوا في اللحن، وفي الأداء، مستغلين تطور التقنيات الفنية نفسها عما كانت عليه سابقا، والتي لم تكن متاحة للجيل الأول.

خلال هذه الفترة لم يتم إبداع أغنية عاطفية واحدة بحجم "خطر غصن القنا" أو وطنية بحجم: "انثري الشهب حولنا يا سماء"، أو "املأوا الدنيا ابتساما" أو "أمي اليمن" أو غيرها من الأغنيات الوطنية، بقي الجيل الجديد يستنزف مما ورثه فنيا، دون أن يبدع كما أبدع سلفه.

في فترة الثمانينيات تحديدا كانت هناك مشاريع فنية برعاية الدولة، اندثرت وتلاشت منذ مطلع الألفية الجديدة، وكان الأصح أن يتم البناء على الماضي ومراكمة العمل، وفجأة وجدنا أنفسنا أمام "زوامل" تحريضية يسمونها فنا، مفعولها على الشباب كمفعول السحر، تخلو من القيم الجمالية؛ بل والإنسانية.

مسألة أخرى.. توارث بعضُ أبناء الفنانين إرث آبائهم، مقلدين، لا مبدعين، وليت الأمر توقف عند ذلك فحسب؛ بل ثمة ظاهرة نادرة جدا بين كل فناني العالم، وهي ظهور بعض الفنانين اليمنيين الشباب بصورة مقززة للغاية، وهم يعتلفون أغصان القات كالبرسيم، فشوهوا وجه الفن ومسخوه، ولم يحترموا رسالته.

كان جيلُ الرواد من الفنانين الكبار يتناولون القات؛ لكنهم إذا عزفوا العود احترموا فنهم ورسالتهم؛ إذ لم نر الحارثي أو السمة أو الآنسي أو أيوب طارش أو أبو بكر يغني ويعتلف القات كما يفعل الفنانون الشباب اليوم، ناسين أو متناسين أن الفن منظومة كلية متكاملة من الصوت والمظهر الحسن للفنان وأيضا المكان إلى آخر هذه الصورة.

ثمة جدبٌ فني قاحل، هو في حقيقته جزء من التصحر النفسي الذي نعيشه اليوم، لهذا لعلعت أصواتُ البنادق بدلا من ألحان الموسيقى، وهدرت أفواه المدافع بدلا من أوتار العود، وتسيدت أعواد الهراوات حين غابت أعواد الفن..!

الفن سياسة الأمم المتمدنة، والسياسة فن الأمم المتخلفة. فمتى سنستعيد أرواحنا بالفن؟ ومتى ستصدح شبابة الحياة وتتوارى بندقية الموت؟! الفن حياتنا، وبه نرتقي.

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى