آراء

أمانة الجمهورية.. من جرمل القردعي إلى مدفع العرادة

د. متعب بازياد يكتب: أمانة الجمهورية.. من جرمل القردعي إلى مدفع العرادة


نظعن إليها ونعسكر فيها كلما كان هناك خطر خارجي يهدد القبيلة والمنطقة. شيخ سبعيني يتحدث لقناة تلفزيونية خارجية، في سبتمبر 2014م ويتابع... الحوثي شل صنعاء اليمن وعينه على (الجمهورية كلها). هنا كانت الخلاصة وعنوان مطارح نخلا والسحيل وغيرها في مداخل مأرب من جهاتها الأربع.

تفزع القبائل للذود عن حماها ومرعاها، حدودها ومثاويها، متى داهمها خطر، وهذا عرف قبلي في مأرب وكل محافظات المشرق اليمني. غير أن حدود القبيلة المأربية قد اتسعت باتساع اليمن، وأنارت شعلة صافر مثاوي القبيلة ومضارب بدوانها الرحل.

عقود من أمجاد سبتمبر أكتوبر ومايو، صبغت وجه الصحراء القاحلة بلون الحداثة، واقتحم هدوء رعاتها هدير معامل الطاقة العملاقة، وقطار شاحنات النفط، وخطوط الغاز، وأعمدة الكهرباء، كما هي المدارس والمعاهد والجامعة.

تنقلنا هناك مطلع التسعينات من الحصون في الوادي وحدبا بن عوشان لقشع البرد. كانت هذه القرى والخيام متباعدة تعج بالمدرسين من حضرموت وشبوة وتعز وإب وعدن، من السودان ومصر، وشقت الطرق المعبدة الصحراء بين مأرب والعبر، ليمشي الراعي من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.

كانت مأرب معبرًا لهجرات حضرمية وشبوانية عبر الصحراء في طريقها للمملكة العربية السعودية خلال عقدي السبعينات والثمانينات، وقد استقر بعضهم في مأرب ، واستطابوا تربتها في جوار ورباعة قبائلها وشيوخها الأماجد.

وهكذا جاءت المطارح وقد أصبح شيوخ مأرب أقيالًا لكل اليمن، وغدت مضاربها قاعدة جمهورية تستقطب الأحرار من كل البلاد، لمواجهة أمواج الظلام، القادم مع أفواج الإمامة، وجعلوا منها معقلًا للاستعداد والتعبئة في معركة الجمهورية.

لقد أدركت القبائل المأربية مبكرًا أن الحوثية حركة هدامة تستهدف جمهورية سبتمبر، ومنجزات الثورة اليمنية، وهكذا كانت فطرة البدو قد عصمتهم مما وقع فيه كثير من نخب السياسة، والقيادات الحزبية ذات الحسابات الضيقة. فالجمهورية هنا هي المنجزات والحقوق والحريات والكرامة، لا المكايدات والثارات السياسية.

تشكل مطارح مأرب في سبتمبر 2014م، معلمًا شاخصًا في تاريخ اليمن، ونخبتها السياسية على وجه التحديد، في حين كان لسان حال رجال الدولة والسياسة- المعنيون بحماية الجمهورية بحكم مناصبهم ووظائفهم- أنا رب حزبي وضيعتي...تصدت مأرب وقبائلها لمهمة الدفاع عن الجمهورية والدولة، وكانت صوت الشعب قاطبة. وأصبحت مطارحها عنوان الشرف والبطولة، ومهوى أفئدة الأحرار اليمنيين من كل مكان. كانت (بقية الأرض المحررة والراية الحرة الواضحة).

كانت الراية واضحة العنوان والهدف، لم تكن عميّة كما عمّتها مكايدات الساسة في أماكن أخرى، حيث ضلت الجموع طريقها هائمة على وجوهها، في تلك اللحظة الفارقة، والمفصلية من حياة اليمن واليمنيين. وحين ملأ دخان وانتفاشة الحوثيين وعكفتهم سماء البلد، فإن سماء مأرب ظلت صافية ترفرف فيها راية الجمهورية، منقوشة عليها مبادئ أيلول بعهدة بندقية القردعي ومدفع العرادة، ورفاقهم من قبائل مأرب.

كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ينادي في أصحابه يوم أحد -وهم هائمون على وجوههم بعد ترك الرماة لمواقعهم- أنا ابن عبد المطلب أنا النبي لا كذب، وهكذا كانت مأرب، تنادينا هلموا إلى عرين سبأ، لنعيدها جذعة من أجل الجمهورية التي خرجنا بها من ظلمات الإمامة إلى نور التحديث والعصر.

هناك دروس وعبر كثيرة نتعلمها -من مطارح مأرب- ويجب أن يستوعبها كل الأحرار التواقين للحرية والكرامة في ربوع اليمن اليوم:

أولاً: أن المزايدين باسم الجمهورية من نخب وأحزاب وحتى من تولوا مسؤولية حماية مكتسباتها دستوريًا، خذلوها، أو تامروا عليها، في أول امتحان حقيقي، وعند أول طلقة في ميدان الدفاع عنها، بينما كانت هذه القبائل الأصيلة التي حاول النظام الحاكم باسم الجمهورية أن يشوه تاريخها، ويصم مجتمعها بمساوئ التقطع والتخريب والتخلف، حاضرة لإنقاذ الجمهورية حينما تخلى عنها من أكل بها وشرب، وحكم باسمها وظلم وسلب. فالمبادئ السامية التي أرستها الجمهورية في حياة اليمنيين لم يضحي من أجلها ويفتديها إلا الكرام النبلاء، وإن كانوا أقل المستفيدين من خيراتها حينما يخونها أكثر المنتفعين الرافلين في نعيمها. وهكذا نفوس الأحرار المحلقة ونفوس العبيد الذليلة.

ثانيًا: أهمية تبلور المشروع السياسي للنضال والحشد والتعبئة، فلابد من راية واضحة للقوة ورباط الخيل، فمأرب وغيرها من الأطراف قد هُضمت كثيرًا جراء تركز السلطة وتكدس الثروة بيد نخبة الحكم المركزي الفاسدة بالمركز، وبقيت تعاني الإقصاء والتهميش مع إخلاصها للجمهورية وحكومة الثورة، وقد وجدت كما غيرها في مخرجات الحوار الوطني الذي أفضت إليه نتائج ثورة فبراير السلمية، وجدت مشروعًا سياسيًا وطنيًا يستحق النضال والتضحية من أجله، إنقاذًا للجمهورية من السقوط في وحل الوريث وحكومات النخب المركزية الفاسدة، أو براثن الإمامة المتسربة من شقوق السد الجمهوري. وكان هذا السياق السياسي- تنفيذ مخرجات الحوار الوطني- واضحًا في تصريحات متحدثي المطارح المأربية، وحتى بيانات فروع الأحزاب السياسية الذين انخرطوا في جهود القبيلة لتنظيم المطارح التي أصبحت بهذا البعد الاجتماعي، والمشروع السياسي الوطني، قواعد جمهورية يمنية، أكثر منها فزعات قبلية محدودة.

ثالثًا: بفضل وعي القبيلة المأربية ، وما استقر في ذاكرتها من موروث حضاري، إضافة إلى تشربها مبادئ سبتمبر وأكتوبر ويمن الثاني والعشرين من مايو، أسقطت رهانات الآخرين على تمزق النسيج الاجتماعي مناطقيًا أو طائفيًا. لقد ذابت كل هذه الحساسيات لما ترسخ لدى أبنائها من تطلع نحو المستقبل. فكان الفرز سياسيًا بامتياز، بين شرعية وانقلاب، وقد أدرك هذا التمايز الدقيق في المبنى، العميق في المعنى والمغزى، كل من كان في قلبه ذرة من إيمان بجمهورية سبتمبر، فكانت مأرب قبلتهم حين استفاقوا من غفلتهم، أخ كريم وابن أخ كريم.

رابعًا: ونحن نحتفي بذكرى قيام مطارح مأرب ونستذكر مآثرها في تاريخ اليمن، وحياة اليمنيين وحراسة مكتسبات ثورتهم، وحماية جمهوريتهم، علينا أن نستمع إليهم اليوم أكثر من أي وقت مضى، تقديرًا لتضحياتهم واعترافًا ببطولتهم وسابقتهم، فبفضلهم -وكل رجال اليمن الذين فزعوا للجمهورية معهم- بقيت راية الجمهورية مرفوعة وشرعيتها راسخة بمشروعية النضال والدماء التي سكبت من أجلها، جمهورية يمنية اتحادية، ودولة للمواطنة المتساوية، والشراكة السياسية، والعدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة، وهي العناوين العريضة لسبتمبر وأكتوبر ومايو، بلورتها وترجمتها وصقلتها مخرجات الحوار الوطني، كوثيقة توافق وطني صاغها اليمنيون في لحظة تراخي سلطة الغلابة، وغلبة الوفاق الوطني، حين حضرت الأفكار والمشاريع الكبيرة وغابت العصبيات الضيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى