التدخل العسكري بين اليمن وسورية...لماذا حصل هناك وتعقّد هنا؟
بشّر مراقبون بعد انطلاق عمليات التحالف العربي في اليمن، 26 مارس/ آذار 2015، تحت عنوان "عاصفة الحزم"، بقرب ولادة ما اعتبروه "عاصفة حزم سورية". لكن، ولفترة طويلة، تم اعتبار الحديث عن تدخل عسكري ضد النظام السوري والإرهاب هناك، مجرد تمنيات لا يمكن تحقيقها. اليوم، وبعد مرور خمس سنوات على الثورة السورية، يزداد الموقف تعقيداً، في الوقت الذي تكثّفت فيه النقاشات حول التدخل العسكري البري في سورية من خصوم نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
ألقت كل من السعودية وتركيا بالكرة في ملعب التحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، باعتبار أنهما يعرضان إرسال قوات برية لحسم الأوضاع في سورية ضمن هذا التحالف. الأمر بالنسبة للسعودية ممكن بعدما تخلّت عن "قفازاتها" وعزّزت سياساتها الخارجية، مدعومة بقوتها العسكرية، اليمن نموذجاً. هذه التطورات تفرض مقارنة مهمة بين الأوضاع في سورية واليمن، لفهم بعض سياقات أحاديث التدخل العسكري في سورية الذي يناقش اليوم، دولياً.
الشرعية الدولية
تمّ التدخل العربي في اليمن بدعوة من الرئيس اليمني الشرعي، عبدربه منصور هادي، فيما تبدو الأوضاع مختلفة في سورية، إذ إنّ التدخل الروسي الإيراني جاء بطلب من الرئيس السوري، "فاقد الشرعية"، بشار الأسد. الاختلاف بين الحالتين مؤثر في السياقات الدولية ونقاشات "القانون الدولي". صحيح أن القوى الكبرى لا تهمها هذه الشكليات، والاحتلال الأميركي للعراق يقف شاهداً عن سلوكيات القوى الدولية التي تفرض رؤيتها، بغض النظر عن الحبر المسكوب على أوراق الأمم المتحدة.
إلا أنّ حديث الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة، عن أن الأسد فاقد لشرعيته، خصوصاً بعد استخدامه أسلحة كيمياوية ضد شعبه، لم تترجم إلى خطوات فاعلة على الأرض، باعتبار أنّ بشار الجعفري هو الذي لا يزال يمثل سورية في الأمم المتحدة. ورسمياً، يتم التعامل مع النظام السوري باعتباره ممثلاً للدولة السورية، وهو ما أعطى الأسد ثقة أكبر بأنه سينتصر في النهاية من خلال الدفع باتجاه إعادة تأهيل نظامه، باعتباره شريكاً في "محاربة الإرهاب".
أمّا في اليمن، فقد بدت الصورة مختلفة جذرياً، ليس لأنّ التدخل جاء بطلب الرئيس الشرعي في اليمن، بل لأن كل الأطراف اليمنية تتعامل مع هادي باعتباره رئيساً شرعياً قبل تدخل التحالف العربي بمن فيهم الحوثيون. ما يعني أنّ خصوم الرئيس هادي لم يطعنوا في شرعيته. بينما المعارضة السورية ليست وحدها التي لا ترى نظام الأسد شرعياً بل حتى الشركاء الدوليون الداعمون للمعارضة، لكنهم لم يقوموا بأي خطوة سياسية لسلب الأسد شرعيته "الشكلية القانونية" في الأمم المتحدة، حتى أنهم تخلوا لاحقاً عن وصف النظام بأنه "غير شرعي".
التدخلات المبكرة
في سورية، لم تكن الثورة السورية قضية داخلية إلّا في بداياتها الأولى. عام 2012، وبعد اجتماعات "أصدقاء سورية" الداعمين للثورة ضد النظام السوري في فبراير/شباط، اكتسبت الثورة السورية ملامح مواجهة إقليمية من خلال دعم إيران وروسيا للنظام، وتركيا، والسعودية، وقطر للمعارضة، وهذا ما عقّد المسألة السورية مبكراً. في المقابل، كان التدخل السعودي العربي في اليمن، بمثابة تدخل استباقي، إلى حدّ ما، قبل هيمنة إيران على اليمن بصورة يصعب الخروج منها من دون ثمن باهظ.
من هذه الناحية، زادت الأوضاع في سورية تعقيداً بعد التدخل الروسي المباشر في 30 سبتمبر/أيلول 2015، إذ اكتسبت الثورة طابع الصراع الدولي، كمواجهة ما بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، باعتبار الوجود التركي والمظلّة الأميركية. هذا العامل عقّد حسابات الدول المنخرطة في سورية، باعتبار أنّ أي خطأ قد يؤدي إلى حرب أوسع، الأمر الذي لوّح به المسؤولون الروس كثيراً، وكان آخرهم رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف. واعتبر هذا الأخير، في مقابلة تلفزيونية قبل أيام، أنّ أي تدخل بري في سورية، سيؤدي إلى "حرب شاملة وطويلة". إذاً، يبدو الخطر قائماً وتسعى القوى الدولية، بما فيها روسيا، لتجنبه. وتظهر محاولات موسكو لتجنب حرب من هذا النوع في ردّ فعلها الهادئ، نسبياً، على إسقاط تركيا (العضو في الأطلسي)، لمقاتلة روسية اخترقت حدودها قبل أشهر.
في اليمن، كان الدعم الإيراني للحوثيين يتزايد بشكل مطرد، لكنه لم يترجم إلى دعم فاعل يهيمن على الدولة اليمنية. ولم تنخرط قوى دولية في الصراع اليمني، لذا كان تدخل السعودية استباقياً، وجاء بغطاء عربي وتقبّل دولي بارد، مع دعم من جزء كبير من اليمنيين.
العامل الإسرائيلي والفيتو الأميركي
كان هناك "فيتو" أميركي مبكًر على صعيد تسليح المعارضة السورية بشكل "نوعي". وكان الحديث عن مضادات للطائرات، وهذا قبل التدخل الروسي، بمثابة خط أحمر. بالإضافة إلى محاولة تسليح بشكل دقيق "حتى لا تصل الأسلحة لأياد غير آمنة". كل هذا لضمان أمرين: استمرار التفوق الإسرائيلي المتمثل بقدراتها على قصف أي مكان في سورية بأي وقت، الأمر الذي كفلته روسيا لإسرائيل أيضاً، وتجلى باغتيال سمير القنطار. الأمر الآخر، ضمان أن كميات السلاح لن تكون كبيرة ومؤثرة بحيث تُسقط النظام وتُستخدم في سيناريو ما، مستقبلاً، ضد إسرائيل، لا سيما في الجولان المحتل الذي يحميه النظام السوري منذ العام 1974. كانت القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تضمن هذا لإسرائيل، لتجنب تدخلها المباشر في سورية، الأمر الذي سيكون مفجّراً للأوضاع المشتعلة أساساً في المنطقة.
وكانت إسرائيل تدعي الحياد لفترة طويلة تجاه سورية. فلا شيء أفضل من سيناريو تحوّل سورية لدولة فاشلة لكنها تحت السيطرة، بحيث لا ينعكس "فشلها" على إسرائيل. هذه النغمة الإسرائيلية بدأت تتغير، أخيراً، باعتبار خيار تقسيم سورية سيكون إيجابياً لإسرائيل الآن، كما عبّر وزير الدفاع الإسرائيلي، موشي يعلون، قبل أيام. كما أدّى العامل الإسرائيلي إلى محاولة الولايات المتحدة "ضبط الصراع" بحيث لا ينعكس على إسرائيل، وظهرت بشكل غير مباشر، بتهدئة غير متفق عليها بين حزب الله والكيان الصهيوني. فالحزب منشغل في سورية، وإسرائيل تريد له التورط أكثر هناك لاستنزافه بعيداً عنها. هذا الأمر أسس لرغبة مضمرة بتأجيل أي حل في سورية قبل إنهاك جميع أطراف الصراع هناك، وإسرائيل تتفرج، بل ربما تحتفل.
أوضاع ما قبل 2011
في الوقت الذي كان فيه اليمن بمثابة الساحة الخلفية للسعودية لعقود، لم تكن سورية ساحة خلفية لأحد ولا حتى لإيران. كان هناك ما يمكن اعتباره نظاماً عربياً متوازناً، قائما على أربع دول: العراق، وسورية، والسعودية، ومصر. إلّا أنّ هذا التوازن ضُرب بشكل جذري بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق عام 2003، وانهيار سورية، وانشغال مصر بنفسها بعد ثورة 25 يناير 2011، ولا سيما بعد انقلاب 2013، والذي حوّل مصر من دولة فاعلة في الفضاء العربي إلى أخرى تتم رعايتها من دول عدة، لتجنب تحوّلها إلى دولة فاشلة.
كانت العلاقات السورية الإيرانية مؤسسة على "حلفاء ببعضهم"، منذ ثورة الخميني عام 1979. فقد تعامل الرئيس الراحل حافظ الأسد مع الإيرانيين كندّ. الأمر الذي تغيّر مع وصول ابنه بشار الأسد إلى السلطة. فقد تزايد النفوذ الإيراني في دمشق تدريجياً، خصوصاً بعد تأزم العلاقات مع السعودية بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري عام 2005، ونهاية الوصاية السورية من لبنان نتيجة هذا الاغتيال في العام ذاته، وهيمنة دمشق على بيروت من خلال حزب الله الذي أعلن خصومة جذرية مع السعودية بعد حرب 2006.
هذه العوامل مهّدت للتغلغل الإيراني في سورية ووضع الدولة تحت هيمنتها بشكل كبير. وكلما ضعف الأسد، زادت الهيمنة الإيرانية على دمشق. في حين يبدو الأمر معكوساً بالنسبة لتركيا، والسعودية، وحلفائهما. فهذه الدول لم تمتلك يوماً نفوذاً في سورية، ودائماً ما كان النظام السياسي في دمشق يضع مسافة بينه وبينهم، وإن لم يكن يتعامل معهم بعدائية، خصوصاً في فترة حكم حافظ الأسد، الذي احتفظ بتحالفه مع الإيرانيين وبعلاقات جيدة مع السعوديين في الوقت عينه. أما في اليمن، فقد تمتعت السعودية بنفوذ واسع لعقود، وتأرجحت علاقات الرياض مع الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح. لكن علاقات السعوديين بآل الأحمر كانت قوية، والمقصود هنا الشيخ عبدالله الأحمر، الذي كان فاعلاً ومؤثراً في اليمن، ربما بشكل يفوق صالح نفسه.
إمكانية التدخل في سورية
على عكس المعوقات السابق ذكرها، هناك أربعة عوامل رئيسية، تجعل التدخل التركي السعودي، ضمن تحالف دولي ضد الإرهاب كما هو معلن، ممكناً. فهناك فصائل مسلحة على الأرض خاضت معارك ضارية على مدى سنوات ضد نظام الأسد و"داعش". كما أنّ هناك إرهاباً عابراً للحدود في سورية، وإشكالية اللاجئين السوريين بالنسبة لأوروبا، بالإضافة إلى "المسألة الكردية" بالنسبة لتركيا.
لكن في اليمن، لم يكن هناك قوات كبيرة داعمة للشرعية، واضطر التحالف العربي إلى تدريب مقاومة شعبية، والاستعانة بخبرات "الحراك الجنوبي" لتدريب مسلحين جدد، تزامناً مع انطلاق عمليات "عاصفة الحزم" العسكرية. لذلك، يبدو أن الأرضية مهيأة لتدخل أكثر فاعلية في سورية، باعتبار وجود فصائل مسلحة تقاتل النظام على امتداد 5 سنوات، وكل ما تحتاج له هو دعم عسكري أكبر، وتوحيد لصفوفها.
من ناحية أخرى، كان حضور سردية "الإرهاب" محدوداً في اليمن. فتنظيم القاعدة في جزيرة العرب اكتسب طابعاً محلياً، ولم يكن يمثل تهديداً إلّا للسعودية. بينما اكتسبت تهديدات تنظيم داعش طابعاً دولياً. ونفذ الأخير هجمات إرهابية في باريس، ما جعلها تعلن حالة الطوارئ، وتمددها، قبل فترة وجيزة، لثلاثة أشهر أخرى. كما تبنى التنظيم استهداف طائرة روسية سياحية في مصر. وضرب مساجد واستهدف رجال أمن في الكويت والسعودية. وجنّد إرهابيين في بلجيكا، ولوّح بعمليات في مناطق أخرى من العالم. تهديد "داعش" يكتسب طابعاً دولياً، يجعل التدخل في سورية مهماً ومبرّراً لدول كثيرة، لحفظ أمنها بشكل مباشر.
أما الأمر الذي يقلق أوروبا ويعتبر بمثابة تهديد مباشر آخر لها، توازياً مع الإرهاب، فهو عبور اللاجئين عبر حدود دول الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي بات مهدداً للاتحاد نفسه. فتدفق اللاجئين قد يكون ورقة ضغط تركية على أوروبا، لا سيما دول "الأطلسي"، لمنح أنقرة والرياض غطاء للتدخل في سورية، لمحاربة الإرهاب والنظام كحد أقصى، أو بناء منطقة آمنة كحد أدنى، تقلل من تدفق اللاجئين إلى أوروبا. كما أنّ موجة المهاجرين هذه، باتت تستفز القوى اليمينية الأوروبية المتطرفة، وتهدّد مستقبل الاتحاد. ويمكن هنا قراءة تصريحات المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، قبل فترة وجيزة، الداعمة لإنشاء منطقة "حظر جوي ما" أو "منطقة آمنة" في سورية، باعتباره جنوحاً أوروبياً، لدراسة إمكانية أن تكون "المنطقة الآمنة" نواة لإيجاد حلّ لمشكلة الاتحاد الأوروبي مع اللاجئين.
تركيا تملك مبرراً أكبر للتدخل في سورية، ويحظى بإجماع داخلي، ألا وهو مواجهة حزب "العمال الكردستاني"، الحركة الانفصالية الناشطة داخل الأراضي التركية، والذي تريد أنقرة القضاء على وجودها في مناطقها الحدودية الطويلة مع سورية. بالإضافة إلى فرعه السوري المتمثل ب"الاتحاد الديمقراطي"، وقوات حماية الشعب الكردية. حزب "العمال الكردستاني" مصنف دولياً كحركة إرهابية، وهو تهديد حقيقي للأمن القومي التركي، وبالتالي من الصعب الوقوف في وجه ملاحقته على طول الحدود التركية السورية. واتهم رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، الحزب الكردي، بالوقوف وراء الهجمات التي استهدفت عسكريين أتراك، قبل أيام.