ما يمكن أن ندركه من احتفائية لواحدة من ذرات الضوء في مدار الضوء الهائل هو ما يمكن أن يجله اليراع عن كوكبان الأصالة التي استضافت التاريخ يوماً (في اليمن ) فنام على ربواتها وقد أصاخ السمع لترانيم الزمن وأنغام الخلود..
ما يحفظه بؤبؤ العين من جلاميد الضوء المجنحة ذات انثيال عابر هو ما يمكن أن تحيط به العين عن كوكبان، ولو تجولت بين وهادها أياما وأيام!!
كوكبان.. أراها وقد جلست القرفصاء وأدرات وجهها باتجاه الشمال ساخرة تتأمل دهشة الأجيال من إطلالتها الشاهقة؛ على جيدها الفضي تنتظم الكواكب، وفوق جبينها تومض البروق..
لوحة سريالية هندستها أبدع يد، وصممتها أقوى الإرادات، لا ينتابني الشك أنها ملحمة اللوحات الطبيعية على وجه البسيطة، ولو عرفها ليونادرو دافنشي لجعلها خلفية للموناليزا؛ بل لجعلها موناليزا خاصة. وإذا كنا قد قرأنا وسمعنا بالشعر الملحمي في الأدب اليوناني "ملحمة جلجامش أنموذجاً" فإن كوكبان هي ملحمة اللوحات الطبيعية إن جاز التعبير.
على كل ربوة منها هديل المواويل، تعزفه نايات الروح المتشربة بلورات الأقاح وأنداء البراعم... ذؤابة الضوء تنضح بالبهاء.. قصيدة شعر مطرزة بنظم الجمان.. همس معانيها يردد: سأظل عيون كل القصائد.
صخب ضجيجها الهادر ينتظم شلالات ألحان متدفقة على ربواتها المذهبة وقت الغروب، يما صمت أسحارها يتموسق رقراقاً على نغم الشحرور ونبض الوتر.
خمسة وأربعون دقيقة باتجاه الغرب من صنعاء قضيتها على تاكسي الأجرة في زيارة للتاريخ. وفي ابتسامة خجولة تستقبل شبام الأصالة التي تزحزحت غير كثير تنظر بعيون كسلى وقد قطبت جبينها باتجاه السلطة المحلية التي تأخرت كثيراً في لملمة أسمال التاريخ الزاكية هناك، وقد تكفلت بالاحتماء بنفسها
مراهنة على قيمة التاريخ وقيم الأصالة، كفاتنة عضها الدهر يوماً، فارتدت أسمال أمها البالية وبين عينيها ظمأ راعب أن تحكم في قصر السلطان، وكأني بها مرددة:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي كلما قلت شعرا ردد الدهر منشداً
مبنى المجمع الحكومي هو أول محطة لي لانتظار دليل الرحلة، المثقف الرائع إبراهيم شرف الدين، صديق الصحفيين ودليلهم في زياراتهم وأعمالهم هناك. "الأقلام عند بعضها"
المهم.. جولة بين أزقة المدينة التي تتضوع منها روائح القرون الأولى، وشوارعها المتواضعة، تشبه جولة متسول غير أنه مزود بكاميرا تصوير وجهاز تسجيل، وبالمناسبة فالمدينة تكاد تخلو من المتسولين قياسا بمدن أخرى، كما أنها بدأت تحتفي كما يبدو لي ببعض اللمسات الخدمية الجادة وإن كانت في طور النشأة الأولى.
(شبم): برد، وأيضا أحس بالجوع والبرد، وقلب شبمٌ: بارد قليل الحس.. هكذا في المعجم الوسيط، وقديما قال المتنبي مخاطبا سيف الدولة: وا حر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم
يقال أن تاريخ شبام كوكبان يعود إلى ما قبل القرن السابع قبل الميلاد، بناء على نقش حميري دونه كرب إل وتر بن ذمار بن علي، مكرب سبأ في القرن السابع قبل الميلاد، مشيرا إلى أنها واحدة من مدن مملكة "نشن" مدينة السوداء في الجوف، وبعد أن هزم هذا المكرب ملك مملكة "نشن" ضم كل ممتلكاته إلى مملكته، وبعدها بدأت هجرة السبئيين إلى قيعان الهضبة الوسطى، وفي أطرافها أقيمت مدن عديدة من بينها شبام، وإليها ينسب حنظلة بن عبد الله الشبامي ممن استشهدوا مع الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه في كربلاء؛ وذاع صيتها أكثر بعد أن استقل اليعفريون بحكم اليمن (255ه 394ه ) إبان الخلافة العباسية..
وتذكر رواية أخرى أن المعتصم بن هارون الرشيد رحمه الله بعث إلى اليمن سنة 225ه الأمير عبد الرحيم بن إبراهيم الحوالي فحكم إلى سنة 247ه ثم انتقل الحكم إلى حفيده محمد بن يعفر بن عبد الرحيم من قبل الخليفة المنتصر بن المتوكل، وهو الذي جدد عمارة الجامع الكبير بصنعاء ووقف عليه أمولاً شاهدة ثم بنى جامع شبام كوكبان. وللعلم فجامع شبام كوكبان كما يقول الكثير لم تطله يد التغيير أو التدخل منذ بني في القرن الثالث الهجري حتى اليوم.
والجامع يعتبر نسخة أخرى من الجامع الكبير بصنعاء من حيث التخطيط العام والزخارف الهندسية على المصندقات الخشبية في سقف الجامع التي يقال أنها من شجرة الطنب، وكأن النحاتون والفنانون أفرغوا أيديهم من العمل فيها قبل قليل!!
دخلته لأداء صلاة الظهر فخشعت لجمال زخارفه ومصندقاته أكثر من خشوعي في الصلاة، "الوقوف في محراب الجمال هو الجمال بعينه"
تفرست بين وجوه القوم فإذا وجوه صبيحة ولحى بيضاء وعمائم مدورة، ومصلون مسربلون؛ ووحدي في الصف الأول من ضممت. حقيقة لم أحس بنكير من أحد، كما أحسست ذات يوم وأنا في جامع الإمام الهادي بصعدة.
إلى الجهة الغربية من الجامع يقع دار الجمرك، المبنى الأثري القديم ذو الفن المعماري الأصيل، كما يقع إلى الجهة الشمالية من الجامع أيضاً الحمام القديم المصمم على مستويات عدة، تزينه بقايا زخارف أثرية، شوهت جمالها تدخلات حديثة من الأسمنت، تاريخ بناء هذا الحمام مرتبط بالجامع الكبير، ولا يزال يستخدم إلى اليوم.
لا يخفى على الزائر للمدينة بقايا السور القديم من التبن بعرض 3 متر، والذي يبدو كعجوز هرم يتحلق حوله الأحفاد، على ملامحه حزن الإهمال، وقد تناوبته نوائب الدهور وأصبح وسط المدينة بعد أن كان خارجها يطوقها كالمعصم.
من غير المعقول طبعا لأي زائر أو صحفي أو سائح أن يتجاوز حميدة ويغادر شبام قبل زيارتها. وقد قال سائح فرنسي في مذكراته: "إذا زرت اليمن ولم تزر حميدة فكأنك لم تزر شيئا" أعتقد أن في المقولة ضربا من المبالغة الحميدة؛ لكن حميدة تستحق الزيارة فعلاً، لا لأنها كريمة اليد وتستضيف الصحفيين مجاناً، كما هو الشأن معي، خاصة من قبل السيدة أروى "ولية العهد" لكن لتعرف كم أن حميدة امرأة عصامية سبقت كثيرا من رجال عصرها في مجال الاستثمار، بدأت العمل كما تذكر من أيام الثورة في بيت أبيها وبصورة متواضعة، نقلت خبرتها بعد زواجها. الآن تمتلك العقارات الكثيرة والمباني الفاخرة والأرصدة البنكية، وعشرة أولاد خمسة ذكور وخمس إناث، كلهم يعملون عندها براتب شهري، تمثل حميدة بالنسبة لطاقم العمل رئيسة مجلس الإدارة، فيما تمثل ابنتها أروى المدير التنفيذي، خاصة وهي التي توقع على الشيكات وتستقبل الوافدين، وتجيد الانجليزية لا لكونها درست إلى الصف التاسع، ولكن لاختلاطها الدائم بالسواح والأجانب، رجاحة عقلها ونباهتها من بين إخوتها أهلها أن تكون كذلك.
أرادت أن توصل رسالة ذكية من خلالي كصحفي إلى الجهات المختصة التي تأبه كثيرا لنظافة المدينة حين أرتني الجهة الخلفية للمطعم في حوش ليس ملكا لها وقد تراكمت فيه القمامات بصورة مقززة تنبعث منه الروائح الكريهة، ما يجعل الوافدين يتأذون منه، وتتحرج هي حين يلتقط له السياح الصور رغم أنها تدفع رسوم النظافة كما تذكر
دقائق جلستها، ومعي إبراهيم شرف الدين وسمير البحري مدير مكتب السياحة بالمديرية ف دردشة عابرة مع ثلاث سائحات إيطاليات بعد تناول الغداء. كان الحوار معهن حول وضع المرأة اليمنية. بدت "مانويلا" مستغربة جدا من وضع المرأة اليمنية، ما هذا الغطاء الأسود الذي تلف به جسمها إذا خرجت؟!! وتستغرب أكثر حين ترى المرأة تحمل الحطب والماء على رأسها في الجبال، مضيفة: لماذا النساء في اليمن لا يأكلن في المطاعم مثل الرجال؟الرجال يأكلون الأكل الجيد بينما النساء قد لا يجدن مثله في البيوت..أسئلة أسمعها لأول مرة!!
بدا الزميل إبراهيم شرف الدين متفاعلا مع الحوار والردود و"دحض الشبهات" كما لو أنه أحمد ديدات، فيما نحن اعتبرناها دردشة عابرة، وقد بدأنا في التأهب للصعود نحو كوكبان.
في نحو عشرين دقيقة أقلتنا سيارة الأخ سمير باتجاه منتزه العقبة الجديد المصمم بطريقة فنية رائعة، وهو أحد النزل السياحية الجميلة لأحد المستثمرين، في مسجده الصغير صلينا العصر وعدنا باتجاه غيل علي. وغيل علي: عين ماء تنبع من الجبل وعندها أيضا استراحة جميلة فيها مجموعة من الأحواض التي يتجمع فيها الماء ومسجد صغير وبيت للسكن وبستان ملحق بها.
هنا كوكبان:
كوكبان: معناه الكوكب. الألف والنون في آخر الاسم للتعريف كما هو معروف في لغة الحميريين "وإنما سمي كوكبان لأن قصرا كان مبنيا بالفضة والحجارة وداخله الياقوت والجوهر، وكان ذلك الدر والجوهر يلمع بالليل كما يلمع الكوكب فسمي بذلك" هكذا قال ياقوت الحموي في معجم البلدان، وهي عند الهمداني في صفة جزيرة العرب "ذخار"
مساحتا تقدر بما يقارب ثلاثة كيلو متر، وشكلها حسبما يتحدد من الجو على صورة قدم مفلطحة، وهي محصنة طبيعيا من معظم جوانبها، ويرتبط تاريخ كوكبان تماما بأختها شبام التي سكنها الحميريون قديما ولا زالت آثارهم إلى اليوم تشمخ بالعظمة والجلال متمثلة في بقايا كثيرة من النقوش على الأحجار والجدران، وأيضا في المقابر الصخرية على الربوات الفاصلة بينهما، طالت بعضها أيادي العبث فيما البعض الآخر لا يزال كما هو خاصة ما يقع منه في الأماكن النائية والعصية على الوصول إليها بسهولة، وإلى جانب المقابر توجد أيضا مدافن الحبوب بحجرات واسعة وفتحة ضيقة من الأعلى لا تزيد فتحتها غالبا عن متر واحد، منحوتة بإحكام بحيث يكون غطاؤها حجري وبنفس المقياس.
أول ما يستقبلك في كوكبان حصنها الشهير المكون من طابقين مرتفعين كثيرا عند كل طرف منه برج للمراقبة، يبدو أنهما الآن في استراحة تامة بعد طول نضال امتد عقودا من الزمن، أو كجنرال حرب بدأ في التقاعد. للحصن مصراعان خشبيان كبيران مصفحان بالمعدن، قريبا منه إلى الجهة الشرقية يقع نفق محفور تحت الأرض مجهول المسار، استخدمه الأئمة والأمراء أثناء الحرب.
من السلالات المتعاقبة على الحكم في كوكبان آل حاتم والزواحي، فالإمام عبد الله بن حمزة "السفاح" في القرن السادس الهجري وقد خاض عليها معارك طاحنة مع السلطان طغتكين بن أيوب من صنعاء الذي ينسب إليه حاليا بستان السلطان في حي التحرير. ثم سلاطين آل الحجاجي، وأثناء ذلك انتشرت دعوة الإمام المتوكل على الله يحي شرف الدين الذي استولى أيضا على أجزاء أخرى غيرها وعين عليها ابنه شمس الدين، ومن حينها تأسست ما أسمي آنذاك بالبلاد الكوكبانية، وهي الطويلة والمحويت "المدينة" وملحان وحفاش ومسور والمصانع وبلاد لاعة من تهامة وحجة، واستمر أولاده من بعده حتى استقر الحكم للقاسم بن محمد وأولاده من بعده‘ غير أن آل شرف الدين ناهضوهم الحكم واستقلوا بالبلاد الكوكبانية دون غيرهم واستمروا بها حتى القرن الثالث عشر الهجري.
مثل حكم آل شرف الدين انفراجة نسبية للناس من حيث الأمان الذي استتب نوعا ما ومن ثم ازدهرت العلوم إلى حد ما وتكاثر العلماء وكثرت الأربطة العلمية، أعتقد أن ذلك بسبب علمية الحكام أنفسهم كما هو الشأن لدى الدولة الرسولية. وخلال هذه الفترة برز أعلام كبار في الفقه والأدب مثل محمد بن عبد الله شرف الدين من أبرز شعراء اليمن في الشعر الحميني والشعر الفصيح، قصائده إلى اليوم مغناة على لسان المغنين والمنشدين، كقصيدة المعنى يقول، ومطلعها:
المُعنى يقول يا من سكن في فؤادي واحتجب في سعوده
كم يكون الجفا
يا عاذلي والبعاد؟ لا جزى من يعوده
غنى هذه القصيدة كثير من الفنانين الكبار كالحارثي والمرشدي والسنيدار وإبراهيم الماس والجراش، كما غناها أيضا الفنان الشهير محمد عبده وعبد المجيد عبد الله وآخرون.
وله أيضا مغناة شهيرة لطالما هفت لسماعها المواجيد وهام بها بأدائها الفنان الراحل محمد حمود الحارثي رحمه الله، وهي:
عليك سموني وسمسموني وبالملامة فيك عذبوني
وجروا المصحف وعذبوني وقصدهم بالنار يحرقوني
وإلى جانب هذا الغنائيات الرائعة له أيضا موشحات وترانيم روحية موشاة بأنفاس صوفية عجيبة يمتلئ بها ديواناه: "مبيتات وموشحات" و "الروض المزهوم والدر المنظوم" كما أن له مؤلفات أخرى في الفقه والحديث وغيرهما.
وإلى جانبه من أعلام الفقه والفكر المجدد المعروف المقبلي الذي تنقل فيما بين كوكبان والأهجر وصنعاء ومكة المكرمة التي توفي بها، وهو من أقران الإمام الشوكاني رحمه الله، ومن مؤلفاته: "العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشائخ" وكتاب "الأبحاث المسددة في فنون متعددة" وقد يكون آخر عنقود هذه المدرسة القاضي حمود محمد شرف الدين رحمه الله.