آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

عن الحرب.. وبراءة الحوثيين والحراك

ما يعيه السياسيون أن الحرب امتداد أو تواصل للسياسة، بمعنى: أنه في حالة فشل السياسة ‏في تحقيق الحلول ‏لأي مشكلة قائمة؛ فإن الحرب هي البديل الذي يلجأ إليه كل الأطراف مهما ‏كانت نتائجها، وذلك على مسلك المثل ‏العربي:" آخر العلاج الكيّ".‏

ومن أخوات الحرب: الانقلابات الدامية، وأعمال العنف، والمواجهات المسلحة. ولكل حالة ‏مما سبق وضعه ‏وتبعاته القانونية والسياسية والاجتماعية، أما القواسم المشتركة بينها-جميعا-‏فهي أدوات القتل ونتائجه.‏

بهذه العتبة دعونا ندخل في ضوضاء الجدل الدائر حول أهم قضيتين من قضايا الحوار ‏الوطني؛ قضية الجنوب ‏وقضية صعدة، حيث تطل جذور هاتين القضيتين من باب الحرب ‏وأخواتها؛ لأن تلك الحرب كانت امتدادا للسياسة ‏التي لم تفلح في إيجاد الحل الناجع لأي من ‏القضايا الوطنية المثارة في تلك المناطق، فتفاقمت وخرجت عن فلكها ‏الطبيعي الذي كانت ‏تسير فيه، وأحس معها رجالها بأن الحرب هي الحل، وهذا-بالطبع- ليس كل الجذر؛ لكنه ‏امتداد ‏من امتداداته، وهو أقوى الامتدادات؛ لأنه متشح بالدماء ويميّز بين غالب ومغلوب.‏

لقد حاولت الكثير من المكونات السياسية النأي عن مواقفها من أي صراع دامٍ كان وراء تفاقم ‏هاتين ‏القضيتين، وبدا الجميع في نظر أنفسهم أبرياء، مع أنهم جميعا شركاء في كل قطرة دم ‏سفكت على هذا التراب. ‏فالحوثيون لا يمكنهم أن يقولوا: نحن لم نقتل أحدا، وقد قابلنا الجيش ‏على جبال صعدة بالورود وأغصان الزيتون!! ‏ومثل ذلك ينطبق على قوى الحراك التي تدعي ‏لنفسها السلمية وهي على النقيض من ذلك.‏

في صعدة، لقي الآلاف من الجنود حتوفهم، ولقي مثل ذلك أو أقل منه أنصار ومشايعو ‏جماعة الحوثي خلال ‏ستة حروب بدأت عام 2004م ولمّا تزل، وامتدت المواجهات بين ‏الطرفين لتصل إلى الضواحي القريبة من صنعاء، ‏ونشطت خلايا الحوثي العسكرية والفكرية ‏في اختراق أحياء داخل العاصمة تمهيدا لنقل المواجهة إليها.‏

‏ وبالنظر إلى حرب 1994م، كان الكثير من رجال هذه الجماعة -قبل تشكل كيانها من ساسة ‏ومفكرين وأنصار- ‏ضمن من شارك في تلك الحرب، وذلك في الصف الذي كان فيه الرئيس ‏السابق علي عبدالله صالح، وهم اليوم ‏يتبادلون الغزل والاستلطاف على نحو نفعي، مع أن ‏قلوبهم تلعن بعضها بعضا، مع هذا الطرف أو ذاك!!‏

بالنسبة للحراك الجنوبي؛ فإن رجاله لم ينزلوا من أعلى سماء أو ينبعوا من أدنى طبقات ‏الأرض؛ بل إن هؤلاء ‏كانوا-بطريقة أو بأخرى- مشاركين في حرب 1994م، في الصف الذي ‏أعلن الانفصال والحرب وضمن قوات ‏المواجهة المسلحة الانفصالية التي استمرت أكثر من ‏شهرين؛ قادة عسكريين أو زعماء سياسيين، بل وكان منهم في ‏الصف الآخر، ناهيك عن ‏صلاتهم القوية بالأحداث الدامية التي أرهقت الجنوب خلال ثلاثة عقود، وكان آخرها ‏وأشدها ‏فتكا أحداث يناير عام 1986م، وهم ذاتهم من وُلد على أيديهم الحراك الأليف أو المسلح، وما ‏تخلل فترة ‏نشاطه خلال السنوات الست من أعمال عنف وقتل تجاه مدنيّي الشمال وتجاه قوات ‏الجيش والأمن التي يصفونها ‏بقوات الاحتلال!! ‏

في رؤيتهم التي قدموها لفريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني، أوردت جماعة ‏الحراك كلمة ‏الحرب اثنتين وستين مرة، بمعدل ثلاث كلمات في صفحة واحدة من مجموع ‏الصفحات التي قدمت فيها الرؤية، ‏لتتضح نفسية أولئك الذين يتصنعون السلام ويدعون أنهم ‏أقرب إليه من سواهم، وهم في الحقيقة على النقيض، ولكُم ‏أن تنظروا الفرق- إذا جازت ‏الاستعارة- بين موقفهم وموقف الرئيس المصري أنور السادات حينما ذهب إلى إسرائيل ‏‏وخطب في الكنيست في مسعى منه للسلام مع اليهود، وكيف أنه أورد كلمة السلام في خطابه ‏أكثر من سبعين مرة!!‏

لقد جعل هؤلاء من أنفسهم في تلك الحرب كحال ذئب يوسف-عليه السلام- ووصفوا الطرف ‏الذي كان في ‏مواجهتهم بأنه المتبني الأول لتلك الحرب، وتناسوا أن أغلب المواجهات التي ‏سبقت الحرب جُعلت لأن تكون في ‏محافظات الشمال كما حدث مع لواء باصهيب في مدينة ‏ذمار، واللواء الثالث مدرع في عمران، في إبريل عام ‏‏1994م.‏

والمتتبع لمنطق الحرب الذي يعشعش في نفوس أولئك، أنهم يصورون ما حدث عام 1994م ‏بأنها حرب بين ‏دولتين، والحقيقة أنها حرب داخلية أهلية قامت بين جماعة استدعت الحرب ‏بالتمرد على الشرعية استدعاء، ‏واستخدمت الأرض المحررة، وقادت عملياتها الحربية عليها ‏في مواجهة نظام شرعي كان الجميع حينها مجمعين ‏عليه، في محافظات الشمال والجنوب؛ ‏الأمر الذي استدعى فئات جنوبية لخوض غمار تلك الحرب، لما لحق بها من ‏ضرر في أحداث ‏سابقة خلال الثلاثة العقود التي حكم بها اليسار تلك المناطق، وذاقوا منه مرارة الاعتقال ‏والتشريد ‏ومصادرة الحقوق.‏

وعلى نحو مراوغ، لم يعلن علي سالم البيض الحرب رسميا إلا بعد أن أعلن الانفصال؛ ‏ليجعلها حربا بين ‏دولتين، مع أن الرجل كان قد بدأها عمليا من خلال قيامه باستيراد الأسلحة ‏الثقيلة، والبزات العسكرية، وطبع النقود ‏الجنوبية، والتضييق على الوحدات العسكرية ‏والأمنية، وافتعال المواجهات معها، بغية الخلاص منها، كما استدعى ‏طلاب الجنوب في ‏الكليات والمعاهد العسكرية لدعم مجهود تلك الحرب. ‏

هذه هي الحرب التي يتهرب من الاعتراف بآثامها كل الأطراف، وهذا هو وجهها الذي لم ‏يتحدث عنه المدعون ‏بالحق، وينأون عنها بكل سُخف، وهم جميعا غارقون فيها؛ ولذلك يجب ‏عليهم أن يتخلوا عن طبع النفاق، ويقولوا ‏الحق فليس بعد الحق منجى، وسيربح اليمن السلام ‏إن اعترفوا جميعا بالذنب تجاهه، ويعلنوا التوبة النصوح.‏

زر الذهاب إلى الأعلى