يتخبط الاقتصاد اليمني ويترنح ويكاد يجثو على ركبتيه لأنه ظلّ من دون رؤية ولا إرادة وإدارة على إمتداد خمسة عقود مضت. وكانت النتيجة وقوع هذه الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي تمسك بخناقنا، من أبرزها الفقر المدقع والجوع القاتل والبطالة الساحقة التي تحاصر الملايين من اليمنيين وتلك ثمار لاقتصاد متخلف غير منتج، خدميٌّ تابعٌ بامتياز. لم يتأهل الاقتصاد اليمني لانشاء منظومة اقتصادية دينامية راسخة تنتج تحولات اجتماعية متطورة، ولكونه كذلك فقد أنتج مجتمعا هامشيا وطرفيا إلى حد كبير يمد يديه للغير على الدوام ويتسول الفُتات بالرغم مما تحفل به أرض اليمن من خيرات طبيعية وموارد بشرية كبيرة.
إن النزاع الدائرحول حجم مساحة الدولة ومساحة السوق في إدارة الاقتصاد والمجتمع لا مبرر منطقي ولاعلمي له سوى المبرر الايدلوجي. وكما تدلل التجربة التأريخية فأن تكامل وتناغم هذين المحورين (السوق والدولة) من شأنهما الدفع بالتنمية الشاملة في أي مجتمع إلى الأمام دون إرتداد. وكنت قد أكدت في مقال سابق في أحدى الصحف اليمنية على ضرورة ان يتبنى مؤتمرالحوار الوطني الشامل تحديد فلسفة للتنمية تقوم على تنسيق عمل هذين المحورين ، وشّدّدت على ذلك في نقاش مع فريق التنمية الذي أستضافني مشكورا في قاعة مؤتمر الحوار في نهاية أغسطس من الشهر الماضي. في المقال والنقاش المشار إليهما دعوت إلى الأجابة على تساؤلات خمسة لتأسيس فلسفة التنمية للدولة القادمة: ماذا نريد أن ننمي ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟ ولمن ؟ وبمن ؟. ولما كان فريق التنمية لا يملك جوابا بعد على ماهية فلسفة التنمية المنشودة فإننا نجتهد هنا ونجيب!!
نبدأ الجواب من نهايته إستنادا إلى التجربة التأريخية التي مرت بها معظم الدول المتقدمة والناهضة في العصر الحديث. وهي التسوية التأريخية بين العمل ورأس المال ، باعتماد (دولة الرفاه) كفلسفة للتطورالاقتصادي والاجتماعي في تلك البلدان التي ترتكز في آلية عملها على التناغم بين السوق والدولة والتي ترعى مصالح كافة القوى والطبقات والشرائح الاجتماعية المتعايشة في المجتمع.ذلك أن السوق يقظة بشأن الكفاءة لكنها عمياء بشأن العدالة ، كما يقول بول سامولسون ، الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.نشير هنا إلى السوق بوصفه آلية خلاقة للتنافس وإطلاق الحرية الفردية ، فيما نشير إلى الدولة بوصفها مجموعة المؤسسات السياسية والقانونية والتشريعية والتنفذية التي تكفل وتدير وتنظم وتحفظ تلك المصالح والحقوق على مبادئ التسوية السلمية والعادلة بعيدة عن الهيمنة والسيطرة والاستئثار وتقوم بدور الحَكَم والمُنظّم لاختلالات السوق والموجّه والضابط لتأمين قيم العدالة والكرامة الانسانية والمساواة. ويتحقق ذلك من خلال تأمين الحد الأدني من الدخل ، والغذاء ، والرعاية الطبية ، والتعليم ، والسكن وتوفير العمل ، وخدمات الرفاه الشخصية مع سعي أكبر لتقليص الفجوة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد. وتستخدم هذه الدولة وسائل وطرق مختلفة لتحقيق تلك الأهداف من أبرزها مدفوعات مباشرة للضمان الاجتماعي ومخصصات التقاعد ، تزويد مباشر للخدمات الاجتماعية ، تقديم الخدمات التعليمية مباشرة أو بطرق غير مباشرة ، نظم التأمين الصحي والرعاية الطبية والتدخلات المختلفة والملائمة في الاقتصاد وسوق العمل طبقا للظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة.
ولابد هنا من الإشارة إلى أن هناك متطلبات أساسية لوفاء دولة الرفاه بفلسفتها وإلتزاماتها من أهمها : أن تكون دولة غنية تستطيع تغطية تكاليف نظم الرفاة ، وأن تكون ذات أقتصاد منتج ومتنوع يتحقق من خلاله التنوع والتوازن الاجتماعي ، وأن تكون ذات نظام حكم ديمقراطي يعترف ويصون الحقوق المدنية (الأساسية)، والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها.
وثيقة فريق التنمية في مؤتمر الحوار الوطني غرقت في التفاصيل لشهور عدة حتى الإنهاك ، وتركت المهمة المركزية دون جواب ناجع ومؤسس تأسيسا علميا صلبا وفقا للمعطيات التأريخية والظروف السائدة لليمن وهي هوية وفلسفة التنمية التيينبغي أن تمضي على هديها الدولة اليمنية وهي المهمة المطلوبة التي ما زال من الممكن بل والضروري أدراجها فيها. وهنا لا بد أن نشير إلى إن مهمة إختيار فلسفة ملائمة للتنمية في اليمن قابلة للتطبيق والنجاح ليست عملية إعتباطية يتحدد فيها النموذج عبر صندوق اليانصيب ، بل عملية صارمة ومعقدة ودقيقة تحتاج إلى التأسيس العلمي والدراسة الماحصة. وهذا ما كان ينبغي على فريق التنمية أن يقوم به منذ أن تولّى هذه المهمة.