دأب الإعلام العربي غداة الربيع العربي ان يركز على فتن وتطلعات الإسلام السياسي في جانبه الآخر ( الأخوان) ولاسيما بعد الثورة المضادة في مصر وانعكاسات تلك الأحداث في كل البلدان التي عصفت بها محاولات رياح التغيير سواء في ليبيا أو تونس وكذلك اليمن وسواها والقارئ المنصف يقف في حيرة من أمره عندما يسلط الضوء على حالة أحادية للإسلام السياسي في جانبه السني المعتدل أو المتطرف ، ويتجاهلون طموحات جناحه الآخر الإسلام السياسي الشيعي ..
وبداهة فأن اللعب على أوتار الطائفية ليست وليدة اليوم، فقد شهدت أوروبا في العصور الوسطى صراعات طائفية ذهب ضحيتها آلاف الناس بين البروتستانت والكاثوليك تارة، وبين الأرثوذكس والكاثوليك تارة أخرى، قبل ان تتمكن أوروبا من حسم جدلية تداخل الدين في السياسة وكبح جماح دور الكنيسة واستطاعت أن تتحول إلى دول مدنية تقوم على أساس المواطنة المتساوية دون اعتبار للدين أو المذهب أو حتى القومية وبهذا فقد تمكنت من تحقيق الأمن والأمان والعيش الكريم لبناء مجتمع مزدهر ومتطور.
وقد لا يدرك البعض بأن قضية دور الإسلام في السياسة إعلاميا بأن تعود لما يقارب القرن من الزمن اذ يعود جذور هذا الجدل المحموم لقضية الإسلام السياسي إلى منتصف العشرينيات من القرن الماضي عندما نُشر كتاب (الإسلام وأصول الحكم ) للأزهري علي عبدا لرازق جاء ذلك بعد صعود تيارات على أنقاض أفول نجم الخلافة العثمانية واستقلال البلدان العربية ، حينها انقسم المثقفون العرب لتيارات شتى منها القومي ، تيار المفكر العربي ساطع الحصري الذي كان له رؤية للقومية العربية ، واصطف البعض لرؤية اسلمة السياسة وكانت بداية لتكوين تيار الإخوان المسلمين في مصر وسواها حتى اليمن ، التي شهدت أول انقلاب للإخوان المسلمين برئاسة الإمام محمد الوزير وهو سليل أسرة هاشمية كانت لرفاقه رؤية ديمقراطية هو إبقاء الملكية في اليمن ولكنه مقيدة دستوريا ولهذا سميت ( ثورة الدستور) ولكنها وكان لها أخطاؤها حيث تم اغتيال الإمام يحي وهو في عمر متقدم وبصورة تآمرية غادرة مع رئيس وزرائه القاضي عبدالله العمري .
وضل الإسلام السياسي محصورا على الجانب السني ليس لان أغلبية مسلمي العالم من السنة وتعتبر الطوائف والمذاهب الأخرى أقلية ، ولم يبرز نجم الشيعة بصورة قوية إلا غداة الثورة الإسلامية في إيران نهاية السبعينيات ، حينها تموضع الإسلام السياسي الشيعي وأصبح له مرجعية قوية ودولة طموحة لها رؤيتها الاجتماعية والسياسية ليس لإيران وحدها بل وللعالم الإسلامي بأكمله ، ولهذا فطموحات إيران ونشر ثقافتها وأيدلوجيتها ليس مقصورا على بلدان المشرق العربي بل وتوغلت في افريقيا واسياء الوسطى التي خرجت من رحم الاتحاد السوفيتي السابق تبحث عن هوية واستقطبت كل من تركيا السنية العلمانية وإيران الشيعية الثيوقراطية تلك الجمهوريات الإسلامية في وسط أسيا.
استهلت إيران إستراتيجيتها السياسية ذات الرؤية الفكرية الدينية المذهبية بافتعال الخصومة والعداء مع جارتها العراق ، وكان لسوء الحظ ان العراق آنذاك تحت حكم حزب علماني قومي يختلف فكريا بصورة جذرية عن تطلعات جمهورية إيران الإسلامية ، وبالطبع كان للاعتبارات الدولية ابان الحرب الباردة دورا في إذكاء واستمرار تلك الحرب لثمان سنوات عجاف ، ولم تضع تلك الحرب أوزارها إلا بعد ضغوطات داخل القيادة الإيرانية ذاتها عندما اجبر رجل إيران القوي آنذاك (حجة الإسلام هاشمي رفسِنجاني) الإمام اية الله الخميني بالتسليم بالأمر الواقع ووضع نهاية لتلك الحرب العجاف فوافق على مضض وشبه ذلك بأنه قد تجرع السمّ !
وغداة سقوط بغداد واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية كان ذلك نصرا مجانيا لإيران ومن سخرية الأقدار بأن الإمام الخميني لم يهناء بالتشفي من خصمه اللدود صدام حسين والقيادة العراقية والذين استضافوا الإمام الراحل في النجف الاشرف لأربعة عشر سنة ، انتهت مألات السقوط المدوي لعاصمة العباسيين لتحول العراق لحظيرة إيرانية وكأن أمريكا قد سلمت بلاد الرافدين في طبق من ذهب لجارتها إيران .
بعد تحول العراق لفلك إيران زادت شهيتها في التمدد إقليمياً لبسط نفوذها السياسي في بلدان الخليج البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية وكذلك في اليمن.
وغداة الثورة الإسلامية في إيران نهاية السبعينيات دأب البعض على ترديد مقولة بأن الإسلام السياسي السني هو مذهب السلطة ، والشيعي مذهب المعارضة ، وتوارى هذا الافتراض عبر محطتين غداة سقوط بغداد على يد الإسلام السياسي الشيعي ومؤخرا سقوط صنعاء على يد من يسمون بأنصار الله ، والذين لم يظهروا في المشهد السياسي الا بعد أعادة الوحدة اليمنية وكان للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح دورا في صعود تلك الحركة التي ، وذلك نكاية بالتيار الإسلامي الصاعد في شمال اليمن آنذاك في (دماج) وسواها فكان يضرب هذا بذاك عملا بسياسة فرق تسد وقد أثمرت تلك السياسة بوصول اليمن لهذا الحال ، لان الرئيس اليمني السابق لم يؤسس لدولة مدنية ولا لجيش وطني ولكن همه كان محصورا في تثبيت ونظامه وإرساء فكرة التوريث الخ.
باغتت ثورات الربيع العربي الأنظمة العربية عندما انطلقت شرارتها الأولى من تونس التي كانت الوحيدة لنجاح ثورتها ، بينما بقية البلدان التي عصفت بها محاولات رياح التغيير انزلقت في الفتن والصراع الطائفي والاستقطاب السياسي الذي ينذر بحروب أهلية ومخاطر التفتت والتقسيم تحت مسمى الفدرالية ، والسؤل لماذا الفدرالية ألان ، اليس جوهر صرا ع تلك المجتمعات محصورة بين الحاكم والمحكوم وليست بين الشعوب والوطن ، فما ذنب الأرض تقسم بسكاكين السياسة؟
كانت مألات وإفرازات الربيع العربي في البداية هو صعود الإسلاميين للسلطة وازدياد نفوذهم في أكثر من بلد ولاسيما مصر وكذلك في تونس وليبيا واليمن ، ولان مصر هي محور البلدان العربية وأكبرها إلا أن الإسلاميين في انتخابات ما بعد مبارك لم يفوزون الا بأكثرية ضئيلة على منافسيهم وكان للطرف الآخر رؤية في أداء ذلك النظام الجديد فاندلعت ثورة مضادة بغض النظر عن أسبابها وتبريراتها الا انها أثمرت بتغيير النظام وسجن خصومهم ، انعكس الأمر على عدة بلدان منها تونس وليبيا واليمن .
اللافت بأن الأعلام العربي بل والدولي يركز على مخاطر الإسلام السني وصحيح بأن هناك تطرف وإرهاب ممن يدعون بأنهم الأقرب للإسلام السني سوى (القاعدة) أو (داعش) أو سواهما ، الا تلك الأبواق والآلة الإعلامية عربية أو دولية لا تتناول الإسلام الشيعي وخطورته وطموحاته بل ولان ورائه مرجعية ودولة فإيران تحتكر وتحصر المرجعية الشيعية في ولاية الفقيه ، ونفوذها ليس فقط محصورا في الأقليات الشيعية في البلدان العربية بل وفي آسيا الوسطى فتلك البلدان التي خرجت من رحم الاتحاد السوفيتي السابق ولدت في التسعينات وكأنها بلدان خام تحن لماضيها القومي والديني والمذهبي فانجذبت أما لإيران أو لتركيا حسب القومية والمذهب..
بينما الجانب الآخر ليس لديه حتى دولة بعينها فقد تبرأت السعودية وبلدان الخليج وأصبحت في فلك الغرب بل وتتصدى لتلك الحركات الإرهابية .
إجمالا نقد التيار الإسلامي السني على اختلافاتها من قبل التيارات العلمانية واليسارية والليبرالية والقومية لم يشمل في كثير من الحالات تيارات الإسلام السياسي الشيعي وكأن حزب الله اللبناني، و(الحوثيين) في اليمن ، وكتائب (عصائب الحق) و(لواء بدر) في العراق، وغيرهم من الجماعات الميليشاوية التي تدعمها إيران.
الإشكال الآخر بأن أعلام تلك البلدان غدت تحاكي تعبيرات ومصطلحات التيارات العلمانية واليسارية والقومية، باعتبارها جماعات تكفيرية ومتطرفة وعنيفة ، ولم يعد دور الإعلام المفترض في التقريب بين المذاهب والفُرقاء السياسيين ، بل انحصر دوره في إذكاء تلك النعرات الطائفية والاستقطاب السياسي .