أوراق بنما.. إضاءة على عالم الأوفشور المعتم
قبل تسريب 11.5 مليون وثيقة من شركة المحاماة البنمية، موساك فونسيكا، كانت بقعة ضوئية متزايدة الاتساع تسطع وتنير عالم الأوفشور المظلم. ولكن هذه الإفصاحات الأخيرة - بقيادة الاتحاد الدولي لصحافيي التحقيقات، التي توصف بأنها أكبر عملية تسريب لوثائق سرية من أي وقت مضى - تشير إلى أن الكثير من السرية ما زال يلف تلك الأنحاء.
وفيما يلي جانب مما تكشفه "أوراق بنما"، أو تؤكده، عن عالم الأفشور والناس الذين استفادوا من عدم الكشف عما تبيعه.
«موساك فونسيكا»؟
عالم الأفشور يقدم مجموعة واسعة من الخدمات، لكن العمل القياسي عادة ما ينطوي على شيء من هذا القبيل:
عميل يريد حيازة أموال، أو عقارات، أو بعض الأصول الأخرى على نحو يخفي فيه ملكيته لها. يتحدث إلى أحد المصارف، الذي يفتح حسابا باسم شركة خارجية يرتب المصرف لإنشائها. سيتم تسجيل هذه الشركة في ملاذ ضريبي: جزر فيرجن البريطانية هي المكان المفضل. لإنشاء الشركة يوظف المصرف شركة محاماة. هذا هو المكان الذي تحب الشركات التي من قبيل "موساك فونسيكا" الدخول فيه.
يُعد المحامون الأعمال الورقية اللازمة لتسجيل الشركة في الخارج - وأحيانا إعداد شركة خارجية أخرى، أو اتحاد ملكية مشتركة لتملك أسهم الشركة الأولى، لإضافة طبقة أخرى من السرية. وفي كثير من الأحيان توفر شركات المحاماة أيضا الإداريين للمؤسسات الخارجية من بين موظفيها. هوية المالك الحقيقي غير مكشوفة في أي مكان. هوية المالك غير معروفة إلا للمحامين، ووكلاء التسجيل، والمصرف - وأحيانا حتى واحد منهم أو أكثر ليسوا على علم بذلك.
بنما تعتبر مجرد عقدة واحدة في الشبكة الخارجية (العقد الأخرى تشمل مجموعة من الجزر المتنوعة في منطقة البحر الكاريبي وبحر المانش، وسويسرا، ولوكسمبورغ، وليختنشتاين، وبعضهم قد يتعامل مع ولاية ديلاوير في الولايات المتحدة الأمريكية والحي المالي في لندن). لكنها تعتبر موقعا رئيسا بالنسبة للمحامين المختصين في الأوفشور، وأحد الحصون الأكثر عنادا ضد زيادة الشفافية في تمويل الأوفشور. تأسست "موساك فونسيكا" في عام 1977 عندما دمج كل من جيرجين موساك، وهو ابن مهاجرين ألمانيين، ورامون فونسيكا، من بنما، شركتيهما القانونيتين.
إنشاء أداة خارجية يمكن أن يكون أمرا قانونيا تماما، شريطة الإعلان عن أصولها إلى السلطات الضريبية، وأن يكون مصدر الأموال واضحا. وبحسب مؤسسي "موساك فونسيكا"، ليس خطأ المحامين إذا استفاد الآخرون من خدماتهم لأغراض إجرامية. وقال فونسيكا ل "فاينانشيال تايمز": "الأمر كما لو أنك اشتريت سيارة لوكيل باعها بدوره إلى سيدة تقتل بها شخصا. المصنع ليس مسؤولا عن ذلك".
لكن "أوراق بنما" تثير تساؤلات جديدة بشأن الاستخدامات التي يتم فيها وضع السرية في مناطق الأفشور. بعض الناس الذين وردت أسماؤهم في الفضيحة المتكشفة يشغلون مناصب سياسية كبيرة. لذلك يتساءل منتقدوهم إن كانت هناك أشياء يريدون إخفاءها.
فلاديمير بوتين
أبرز اسم مذكور في تغطية "أوراق بنما" هو اسم لا يظهر في الواقع في الأوراق. اعتمادا على من تريد أن تصدق، السبب في ذلك هو إما لأن فلاديمير بوتين يعتبر بريئا من تكديس ثروة غير مشروعة (وفقا لمتحدث باسمه، يجري الافتراء عليه من قبل دمى وسائل الإعلام التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية)، أو لأن الرئيس الروسي نسج عباءة محكمة لعدم الكشف عن اسمه للشركات، واحدة تخفي مصالحه عن طريق ضمان أن جميع الخيوط تنتهي إلى الشركات الزميلة، وليس إلى الرجل نفسه.
الاسم الذي يظهر بشكل متكرر في الملفات هو سيرجي رولدجن - العازف وموفق الزيجات، لعب على ما يبدو دورا مهما أساسيا في شبكة خارجية مع وجود الرئيس الروسي في وسطها. عازف التشيلو، الذي عرَّف بوتين على زوجته السابقة، يرتبط بشبكة من الشركات التي انتقلت من خلالها أموال تبلغ على الأقل ملياري دولار بشكل غير مباشر، وفقا لما تظهره الملفات المسربة. وتشمل الشبكة مصارف روسية ورجال أعمال مقربين من الرئيس، وكذلك شركات المسجلة في جزر فيرجن البريطانية وبنما.
الرؤوس تتساقط
غداة التسريبات نزل الآيسلنديون إلى الشوارع بالآلاف احتجاجا على رئيس وزراء الجزيرة، سجمندر ديفيد جنلوجسون. وبحلول مساء اليوم التالي كان عهدة في رئاسة الوزراء قد انتهى.
كشفت ملفات "موساك فونسيكا" أن جنلوجسون امتلك هو وزوجته، وبعد ذلك زوجته فقط، شركة في جزر فيرجن البريطانية التي تقتني سندات تبلغ قيمتها ملايين الدولارات. صدرت هذه السندات من مصارف آيسلندية انهارت في الأزمة المالية عام 2008. تفاوض حكومة جنلوجسون على اتفاق مع دائني المصارف، جعلته عرضة لمزاعم بأن لديه تضارب في المصالح. عندما عمل الصحافيون مع الاتحاد الدولي لصحافيي التحقيقات لوضع تفاصيل اكتشافاتهم أمامه، انسحب من المقابلة. وعندما اعترض رئيس آيسلندا سبيل محاولته للتشبث بالمنصب، تنحى جنلوجسون.
الأوكرانيون، على النقيض من ذلك، ظلوا في بيوتهم، كما فعل الصينيون (الاحتجاجات الحاشدة محفوفة بالمخاطر في كلا البلدين). ومع ذلك، فإن تسريبات بنما تعتبر محرجة للحكام في البلدين، الذين اعتبروا أنفسهم أبطال الاستقامة في مواجهة الفساد المتفشي.
قبل فوزه برئاسة أوكرانيا في حزيران (يونيو) 2014 أثناء تداعيات الغزو الروسي، كان بيترو بوروشينكو معروفا باسم "ملك الشوكولاتة".
وكان قد وعد ببيع معظم أصول شركته في حال انتخابه. في آب (أغسطس) من ذلك العام، مع تراجع اقتصاد البلاد المستمر، حوّل أعمال الحلويات التي يملكها إلى شركة قابضة جديدة في جزر فيرجن البريطانية، وذلك وفقا لما كشفته الملفات المتسربة.هذا الكشف لا يبدو جيدا – فقد استمتعت وسائل الإعلام الروسية بهذا، في حين تجاهلت الادعاءات حول شبكة بوتين في الخارج - لكن بوروشينكو يصر على أنه لم يرتكب أي خطأ. وافق النائب العام على ذلك، قائلا إن التقييم الأولي لا يشير إلى ارتكاب أي جريمة.
في الوقت نفسه، في بكين، لدى أقارب ثمانية أعضاء حاليين وسابقين في أعلى هيئة في الصين - اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي - شركات خارجية شكلتها موساك فونسيكا، كما أظهر التسريب. ومن بين هؤلاء صهر تشي جينبينج، الذي تمثل حملته المضادة للفساد محاولة لتنظيف اسطبلات حزب نمّا المرتشين في السلطة، وأيضا هجوما على خصومه السياسيين.
هذه التسريبات تضاف إلى فضائح سابقة حول حيازات مالية خارجية مرتبطة بكبار القادة الصينيين، بمن فيهم سلف تشي، هو جين تاو، ورئيس الوزراء السابق، ون جيا باو. وتعاملت الحكومة مع مثل هذه التسريبات بعدائية. أحد التقارير القليلة حول التسريبات في وسائل الإعلام الصينية الرسمية عبر عن غضب في الصدور ضد "التضليل" الذي يميل لاستهداف "قادة الدول غير الغربية".
تجار الموت
ويقال إن الوثائق تظهر أن شركة موساك فونسيكا ساعدت على دمج وإبقاء ثلاث شركات في جزر سيشل تقول الولايات المتحدة أنها تورطت في توريد وقود إلى جيش بشار الأسد. وإن الحملة الجوية للرئيس السوري ضد شعبه لم تكن ممكنة بخلاف ذلك، كما تقول واشنطن.
يقول الاتحاد الدولي لصحافيي التحقيقات إن الملفات المسربة تشير إلى أن شركة المحاماة عملت على الأقل مع 33 شخصا، أو شركة تخضع لعقوبات أمريكية. ويضيف أن موساك فونسيكا توقفت عن العمل مع بعض من هؤلاء العملاء قبل أن تضيفهم وزارة الخزانة الأمريكية إلى قائمة عقوباتها. ومن بين الزبائن المتعاملين مع الشركات الوهمية في مكتب المحاماة هناك زعماء عصابات مخدرات في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، ومجرمو حرب وممولو إرهاب في الشرق الأوسط، وتجار أسلحة يبيعون إلى جهات في إفريقيا، وآخرون يبيعون مواد نووية في إيران وكوريا الشمالية.
دور المصارف
التسرب يربط بعض المصارف الكبيرة بتعاملات مالية مشكوك فيها. ومن بين المصارف التي طلبت لعملائها شركات أوفشور من موساك فونسيكا بعض المصارف التي لا تعتبر غريبة عن الجدل حول الأموال التي وضعت بعيدا عن أنظار السلطات.
في المرتبة السادسة يأتي "يو بي إس"، الذي أصبح في عام 2008 أول حلقة ضعيفة في سلسلة السرية المالية السويسرية، عندما اكتشف تحقيق في مجلس الشيوخ أنه ساعد أمريكيين على التهرب من الضرائب. وتوصل المصرف لتسوية مع النيابة العامة في العام التالي، ودفع غرامة بلغت 780 مليون دولار، وهي أول تسوية من بين عشرات التسويات التي فجرت فجوة في السرية المالية السويسرية على نحو كشفت فيه المصارف عن أسماء زبائنها لمصلحة الضرائب الأمريكية.
وفي المرتبتين الخامسة والرابعة، على التوالي، تأتي وحدتا سويسرا وموناكو في مصرف إتش إس بي سي. الأولى تسببت في غضب في المملكة المتحدة عندما كشفت قائمة مسربة للعملاء العام الماضي عن الآلاف من الحسابات غير المعلنة. وتبين أيضا أن رئيس "إتش إس بي سي"، ستيوارت جاليفر، قد أنشأ حسابا خارجيا له، وذلك باستخدام "موساك فونسيكا". وقال جاليفر إنه أقام الشركة في الخارج "بشكل بحت من أجل الخصوصية" ولم يحقق "أي ميزة ضريبية وأي ميزة مالية على الإطلاق".
وفي المرتبة الثالثة، المصرف الذي له اسم كبير في أعلى تصنيف في القائمة، وهو "كريدي سويس"، الذي أقر في عام 2014 بأنه مذنب في الولايات المتحدة لمساعدة أمريكيين على التهرب من الضرائب وتكبد غرامة ضخمة بلغت 2.6 مليار دولار.
وليس من الواضح من "أوراق بنما" ما إذا كانت الأصول المتصلة بالشركات الخارجية التي اشترتها هذه المصارف من موساك فونسيكا قد تم الإعلان عنها بشكل صحيح. ليس هناك إشارات عن مخالفات من قبل المصارف.
مسألة خاصة
لا يتعين أن تكون رئيسا، أو حتى أحد كبار تجار المخدرات، لتأسيس شركة أو مؤسسة في الأفشور.
بيدرو المودوفار، المخرج الإسباني وكاتب السيناريو الحائز على جائزة أوسكار، الذي تشمل أفلامه الرائجة "تودو سبريمي مادري" و"آبله كون إيلا"، استخدم شركة موساك فونسيكا لتأسيس شركة في جزر فيرجن البريطانية في التسعينيات، وذلك وفقا لتقرير الصحافة الإسبانية نقلا عن وثائق مسربة. وقد فعل ذلك جنبا إلى جنب مع شقيقه ومدير أعماله، أوجستين المودوفار، الذي قال بعد التسريب إنه أغلق الشركة في عام 1994 لأنها "لم تتناسب مع طريقة عملنا". الممثل الهندي جاكي شان لديه ما لا يقل عن ست شركات تدار من خلال مكتب محاماة، وفقا لما ذكر الاتحاد الدولي لصحافيي التحقيقات، على الرغم من أنه شدد على أنه "كما هي الحال مع العديد من عملاء موساك فونسيكا، لا يوجد أي دليل على أن تشان يستخدم شركاته لأغراض غير لائقة".
وأوردت الصحف الهندية نجوم بوليوود الذين وردت أسماؤهم في التسريبات، ومن بينهم ملكة جمال العالم السابقة، إيشواريا راي.
ليونيل ميسي الذي يعتبر على نطاق واسع أفضل لاعب كرة قدم في العالم، يمتلك مع والده شركة في بنما تحمل اسم "ميجا ستار إنتربرايسس"، كما تشير الوثائق. ويواجه النجم الأرجنتيني بالفعل قضية تهرب من الضرائب في إسبانيا، حيث يلعب لنادي برشلونة.
وقد وضع النادي موارده تحت تصرف اللاعب "من أجل توضيح أفعاله وسمعته" في قضية أوراق بنما. بعض الأسماء في التسريب تلوح في الأفق من وراء القبر. إيان كاميرون، الأب الراحل لرئيس الوزراء في المملكة المتحدة، كان مدير صندوق في الخارج يتم توجيه النصح له من قبل موساك فونسيكا. وقال مقر رئيس الوزراء إن الشؤون الضريبية لكاميرون الأب تعتبر "مسألة خاصة".
واختلفت صحيفة "ديلي ميرور" اليسارية مع ذلك على صفحتها الأولى، وتساءلت: "نحن نسألك الآن، هل لا يزال لديك أموال عائلية مخبأة في ملاذ ضريبي سري في الأفشور، يا رئيس الوزراء؟ (لا، الأمر ليس "مسألة خاصة"). هذا الكشف يشكل صدمة قوية بخصوص محاولة رئيس الوزراء تقديم نفسه باعتباره آفة السرية المالية - وهي صورة يأمل أن تتعزز في قمة لمكافحة الفساد في لندن في أيار (مايو) المقبل.
لمتابعة أخبار نشوان نيوز على التلجرام اضغط هنا